إستطلاعات الرأي في الانتخابات الألمانية والناخب الحاضر المجهول
منذ الهزيمة التاريخية الساحقة التي منى بها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في شهر مايو السابق في انتخابات ولاية شمال الراين ووسفاليا، أكبر الولايات الألمانية والتي تعد معقله الأول، والمفاجأة التي فجرها المستشار غيرهارد شرودر الناخبين بإعلانه عن نيته إسقاط الثقة عن حكومته من أجل تمهيد الطريق أمام إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في 18 سبتمبر/ أيلول الحالي، واستطلاعات الرأي العام لا تنفك بالإشارة إلى تقدم كبير لأحزاب المعارضة و"شبه إنعدام" فرص فوز الحزب الاشتراكي الحاكم بالانتخابات البرلمانية المبكرة. وفي الوقت الذي تلقي هذه الوقائع بظلالها على إستراتيجيات الأحزاب السياسية وتستحوذ على حيز كبير من اهتمام الناخبين، يبقي تأثيرها الحقيقي على توجهاتهم وقراراتهم مصدراً لتساؤلات لم ينجح البحث العلمي في الإجابة عنها بعد.
إستطلاعات الرأي و"ديمقراطية الإعلام"
لا شك أن إستطلاعات الرأي العام التي تسعى إلى إستكشاف توجهات الناخبين أصبحت جزءً لا يتجزأ من "ديمقراطية الإعلام" المعاصرة التي يصفها بعض الإعلاميين وأخصائيي العلوم السياسية بـ"السلطة الرابعة" والتي أضحت بمثابة وسيط بين المواطنين و مؤسسات الدولة. وبالرغم من تطور منهجية عمل معاهد إستطلاع الرأي العام في السنوات الأخيرة، إلا أن إيضاح طبيعة تفاعلات الناخبين معها يبقي أمراً في غاية الصعوبة، فبعد المناظرة التلفزيونية الأخيرة بين المستشار شرورد ومنافسته أنجيلا ميركيل، أشارت غالبية وسائل الإعلام إلى أداء ميركيل الجديد أمام شرودر صاحب الهالة الإعلامية الجذابة، في حين أن غالبية المشاهدين الألمان رأت تفوقاً واضحاً للمستشار، خاصة فيما يتعلق بصدقية حججه وإطلالة شخصيته المقنعة.
وفي مثال آخر يجسد إخفاق استطلاعات الرأي في التنبؤ بنتائج الانتخابات أشارت بيانات إستطلاعات الرأي العام في ألمانيا إلى تفوق كبير للحزب الإشتراكي الحاكم وصل إلى 10 نقاط على غريمه الحزب المسيحي الديمقراطي قبل أسبوع من الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2002. غير أن نتائج الإنتخابات الحقيقية أظهرت تفوقاً ضئيلاً له لم يتجاوز الستة آلاف صوت.
إخفاقات منهجية معتادة ومبرمجة
يشير العاملون في حقل إستطلاع الرأي العام إلى جملة العوامل الكبرى المجهولة في الحملات الإنتخابية، فكيف يتفاعل الناخبون مع المناظرات التلفزيونية ومع ما يطرحه المرشحون من برامج إنتخابية ودعائية؟ كما أن القليل من معاهد استطلاعات الرأي تنشر علانية معلومات شاملة حول الدراسات التي تقوم بها. وفي هذا السياق يشير المراقبون إلى ظاهرة تذبب آراء الناخبين وفقدانهم إرتباطهم القوي بالأحزاب السياسية نظراً لضعف الانتماء الأيدولوجي بصورة عامة. وما يزيد الإشكالية تعقيدأ هو أن تردد العامة في الإجابة عن أسئلة خبراء الاستطلاعات يعيق قدرتها على التوصل إلي استنتاجات واضحة، علاوة على ميل الناخبين إلى إعطاء إجابات يُعتقد أنها "تعجب طارحي الأسئلة" في إطار عملية المسح.
الناخب الحاضر المجهول
المفارقة الكبري التي ترافق الحملة الإنتخابية الحالية تكمن في إجماع غالبية الناخبين الألمان على ضرورة الإصلاح الجذري لهيكلة الإقتصاد الألماني من أجل التعاطي الإيجابي مع إسحقاقات عصر العولمة، في الوقت الذي يشدد المستشار شرودر على أنه "يريد الحصول من الناخبين على "شرعية" جديدة لحكومته لكي يتابع اصلاحاته الاجتماعية غير المحبوبة شعبياً"، إلا أن أحزاب المعارضة المحافظة لا تزال تتقدم على الحزب الاشتراكي الديمقراطي في استطلاعات الرأي قبل عدة أيام من إجراء الانتخابات. ولكن هذه الإستطلاعات تشير في السياق نفسه إلى أن حوالي ثلث الناخبين لم يحسموا أمرهم بعد. وعلى الرغم من التحسن الأخير الذي شهدته نتائج الحزب الإشتراكي الديمقراطي والعائد في أغلب الظن إلى قوة حجج شرودر وفريقه الانتخابي، وخاصة عندما يدور الحديث في الحملة الانتخابية عن أنظمة الضمان الاجتماعي وعن السياسة الألمانية الخارجية التي يؤيدها غالبية الناخبين الألمان الرافضين لـ"عسكرة" السياسية الألمانية والدولية، إلا أنه يبدو أن هذه الشريحة "المجهولة" من الناخبين ستحدد أخيراً من سيحكم ألمانيا في السنوات الأربعة الأخيرة.
لؤي المدهون