"ارفع رأسك، مصر الجديدة تولد"
١٣ فبراير ٢٠١١"ارفع رأسك فوق، أنت مصري" و"دَلَعو يا دَلَعو، مبارك شعبه خلعوا". هذه الهتافات وغيرها ترددت كثيراً خلال سيري من ميدان باب اللوق وحتى وصولي إلى مقهى "الندوة الثقافية". الميدان بحر يموج بالناس وبالأعلام المصرية من كافة الأحجام، يمسك بها أطفال وفتيات وشبان ونساء ورجال. ظاهرة جديدة لم تألفها مصر – هذا إذا استثنينا مباريات كرة القدم التي يتقابل فيها المنتخب المصري مع نظيره الجزائري مثلاً. عائلات بأكملها خرجت إلى الشوارع لتحتفل بسقوط نظام مبارك وبخلع الرئيس وبداية عهد جديد. مرحلة صعبة مقبلة على مصر، غير أن مَن خرج إلى الشارع يريد أولاً أن يعبّر عن فرحته العارمة. الأسئلة الصعبة مؤجلة إلى حين. الآن يوم البهجة.
في "الندوة الثقافية" جلست مجموعة من الشباب يتناقشون حول هذه الأسئلة الصعبة. في وسطهم جلس الروائي الخمسيني محمود الورداني الذي راح يعبّر عن سعادته البالغة. "كل ما كنا نحلم به، نحن أهل اليسار، كل ما كنا نكافح من أجله وندخل المعتقلات في سبيله، حققه هذا الشباب. هذا شباب له خيال آخر." "هذا الشباب"، يقول الصحفي سيد محمود، "ليس قادماً من الكتب والإيديولوجيا، إنهم قادمون من الحياة". راح الشباب حوله يتحدثون بحماسة عن "المعارك" التي خاضوها في ميدان التحرير خلال الأيام الماضية، وعن "غزوة الجِمال والإبل" التي شنها مرتزقة النظام السابق على جيل الفيسبوك.
"مدنية، لا عسكرية ولا دينية"
الشابة المصرية ذات الأصل العراقي، الدكتورة نادية أحمد، تكلمت عما عايشته في "المستشفى الميداني" الذي أُقيم في قلب ميدان التحرير. هناك أقام الأطباء الشبان خيمة يعالجون فيها الذين ضُربوا بالرصاص المطاطي والرصاص الحي، أو الذين طالتهم هراوات وعصي بلطجية حزب مبارك. تحدثت الدكتورة نادية عن شابات وشبان كانوا بمجرد أن ينتهي الأطباء من علاجهم، يرجعون على عجل إلى الميدان لمواصلة الدفاع عن مطالبهم، كما تكلمت عن رجال كانوا يُحمَلون فيلفظوا أنفاسهم الأخيرة على أياديهم.
يتفجر نقاش حول دور الإخوان المسلمين في المرحلة المقبلة. شباب 25 يناير يؤكدون أنهم عازمون على إقامة دولة مدنية حقيقية. "مدنية، مدنية، لا عسكرية ولا دينية"، كان أحد هتافاتهم. ويقلل الشباب من مخاوف البعض من أن الإخوان سيستولون على الثورة. "نعم، كانوا حاضرين، وكانوا معنا، وكافحوا معنا، ساعدونا بخبرتهم، وضربوا وضُرِبوا، لكنهم ليسوا الأغلبية. وإذا عُقدت انتخابات حرة سينالون نصيبهم الحقيقي". وما هو نصيبهم؟ تترواح التقديرات ما بين 20 إلى 30 في المائة من أصوات الناخبين. كان الإخوان في أيام مبارك يتصدرون المشهد السياسي، هكذا يقول أحد المشاركين الستينيين، ويضيف "لأنه كان مشهداً خاملاً لا يتحرك فيه أحد غيرهم. اليوم تغير الوضع".
روح جديدة
أترك "الندوة الثقافية" وأتحرك صوب الميدان الأشهر في العالم في الوقت الراهن: ميدان التحرير. لا يعرف السائر في الميدان أين هو الشارع وأين الرصيف، وأين مكان "الكعكة الحجرية" الشهيرة التي ذكرها الشاعر أمل دنقل في قصيدته التي كانت أنشودة الطلبة في مطلع السبعينيات. الميدان كله تحول في اليوم التالي لسقوط مبارك إلى كرنفال البهجة. مجموعة تمسك بالدفوف وتغني محتفلةً بالنصر، فيلتف حولها الناس ويرددون الأناشيد. مازال البعض يمسك بلافتات تُذكِّر بشهداء الثورة، والبعض الآخر يمسك بميكروفون ويتحدث عن المطلوب عمله في الفترة القادمة. لافتات تطالب بإنهاء فوري لحالة الطوارئ، بكتابة دستور جديد، بحكومة انتقالية تضم شخصيات مستقلة والمطلب الأهم: محاكمة الفاسدين.
أرى في الميدان روحاً جديدة لم آلفها. روح إيجابية، فاعلة، ناشطة. هناك لافتات علقها شبان كتبوا عليها: "نأسف على الإزعاج فنحن نبني مصر". وبالفعل كانوا منهمكين في تنظيف الميدان، و"كنس" مرحلة مبارك. بنات في عمر الزهور يمسكن بالمقشات ويكنسن الشوارع المحيطة بالميدان. شابة على كرسي متحرك أمسكت بعلبتي طلاء وراحت تدهن الرصيف بالأبيض والأسود.
آلام المخاض وآماله
ولكن مصر ليست ميدان التحرير. هناك من لا يرى في المشهد الحالي سوى الفراغ الأمني والسياسي، لا يرى سوى الفوضى وغياب الشرطة عن الشارع. هناك مَن يتحدث عن مواصلة اقتحام السجون والإفراج عن المساجين، ويشيرون بأصابع الاتهام إلى جماعات دينية مسلحة. وهناك من يتكلم عما يقوم به فقراء معدمون من "احتلال" لشقق فارغة في المدن الجديدة. "الحال واقف"، يقول بعض التجار، أما بعض رجال الاقتصاد فيتحدث عن ضرر اقتصادي كبير.
الفترة القادمة ستكون فترة صعبة وحاسمة. هل يتحقق حلم شباب ميدان التحرير بمجتمع جديد؟ هل تنشأ "مصر الجديدة"؟ أم ستسود حالة من الفوضى والانفلات الأمني؟ هل يستولي الإخوان على الحكم؟ أسئلة كثيرة يتحدث حولها الناس هذه الأيام، وينقسمون حول الإجابات عنها، أو يتشككون في جدوى هذه الثورة. هناك روح جديدة ولدت في مصر. ولن يتغير بين يوم وليلة الفساد الناخر في كافة أجهزة الدولة والتعليم المتدهور والاقتصاد المنهار. ولن يتولد بين يوم ليلة وعي سياسي ناضج ودولة قانون مدنية. أما الأكيد فهو أن الناس، مثلما قال أحد الجالسين على المقهى، سيتوقفون عن الحديث عن الكرة وعن أبو تريكة وحسن شحاتة، ليتناقشوا عن الدستور والأحزاب والبرلمان الجديد. إنها فترة مخاض، بكل آلامها وآمالها.
سمير جريس ـ القاهرة
مراجعة: أحمد حسو