بولندا وأهمية الثامن من أيار/مايو 1945
في ليلة السادس عشر من أيلول/سبتمبر 1939 أدركت بولندا أنها لا تواجه عدواً واحداً فقط بل اثنين. دافعت بولندا بشجاعة عن أرضها منذ الأول من أيلول/ سبتمبر 1939، وهو اليوم الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية، ولكن دون جدوى. ولم يعلم أحد حتى تلك الليلة التي تجاوز فيها الجيش الأحمر حدود بولندا الشرقية لاقتطاع الجزء المخصص لروسيا وفقاً للاتفاقية السرية المبرمة بين ستالين وهتلر حول اقتسام بولندا بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي الشيوعي المتناقضين أيدولوجياً. وبهذا يكون قد بدأت أعنف فترة زمن أسود لم تكن نادرة في تاريخ بولندا.
بلاد مدمرة
خرجت بولندا من الحرب العالمية الثانية مدمرة وسحبت حدودها باتجاه الغرب بمسافة 500 كلم بحسب اتفاقية طهران، واضطر ملايين البولنديين إلى الهجرة من شرق بولندا إلى المناطق الألمانية سابقاً. وكانت وارسو مدينة محطمة خالية من سكانها. كما فقدت بولندا أكبر عدد من مواطنيها مقارنة بعدد سكانها، وبلغت الخسائر البشرية ستة ملايين شخص ووصلت نسبة المدنيين إلى 95 %. فقد كانت البلاد لمدة ستة أعوام تقريباً عبارة عن مجزرة آلية تجر وتنقل جثث الناس ذهاباً وإياباً مثلما وصفها المؤلف البولندي تشيسلاف ميواش، حامل جائزة نوبل للآداب. ففي بولندا فقط أسست أكبر معسكرات الاعتقال مثل أوشفيتس، وتريبلنكا، وسوبيوبر، وبيلزيك، وشيلمنو، ومايدانيك، ولم يستطع إلا 10 بالمائة من يهود بولندا البالغ عددهم 3,3 مليون شخص إنقاذ أرواحهم من ميكنة الإبادة النازية.
كن غالباًَ ما ينسى المرء، من وجهة النظر الألمانية، أن الضحايا لم يكونوا من اليهود فقط، بل بحسب الأهداف الحربية النازية كان ينبغي القضاء على الأمة البولندية كاملة. ففي عام 1939 بدأت ملاحقة ممثلي القومية البولندية من مثقفين ورجال دين ونبلاء وزجتهم السلطات النازية في معسكرات الاعتقال بعشرات الآلاف أو أعدمتهم فور القبض عليهم، وكانت الخطة الألمانية تقوم على "أَلمَنة" المناطق البولندية بالقوة وسبي البولنديين كي يعملوا عبيداً فيها.
انتفاضة وارسو
قضى المحتلون الألمان على انتفاضة وارسو بوحشية فقد قتل الألمان مائة رهينة بولندي بسبب مقتل جندي ألماني واحد، واتضح للمقاومين البولنديين منذ هجوم ألمانيا على الاتحاد السوفييتي عام 1941 أن تحريرهم من الإرهاب النازي لن يتم إلا بانتصار ستالين على هتلر، لكن نوعية هذا التحرير بانت عند اكتشاف مقابر جماعية في كاتين بالقرب من سمولنسك عام 1943: فقد أمر ستالين بإعدام أربعة آلاف ضابط بولندي كانوا قد وقعوا أسرى في أيدي الجيش الأحمر عام 1939.
قررت المقاومة البولندية متابعة نضالها العسكري ضد ألمانيا ونضالها السياسي ضد روسيا وأراد البولنديون إظهار قوتهم للجيش الأحمر الزاحف من الشرق 1944، فقرر المقاومون القيام بانتفاضة ضد المحتل الألماني لإجباره على الانسحاب وذلك قبل ساعات من وصول القوات الروسية المتوقع إلى وارسو، ولذلك كان الأول من آب/أغسطس 1944 موعداً لانطلاق الانتفاضة. استمرت المواجهات الدموية بين المقاومين البولنديين والجيش الألماني 63 يوماً، لأن ستالين رفض مساعدة البولنديين وترك جيشه منتظراً على أبواب وارسو في الوقت الذي قضى الجيش الألماني على الانتفاضة التي أودت بحياة مائتي ألف شخص، وأُجبر الناجون على مغادرة المدينة التي دُُمرت بشكل شبه كامل، حتى أن هتلر أمر بتفجير المباني المدمرة في وارسو. انتفاضة وارسو لا تعد حتى يومنا هذا عبئا نفسياً فحسب، بل رمزاً للمقاومة البولندية ضد الإرهاب النازي والظلم السوفييتي. ويحيي البولنديون سنوياً ذكرى الأول من آب/أغسطس التي كانت حتى أواسط الثمانينيات غير مرغوب فيها.
التوق إلى الحرية
كان عام 1945 عام تحرير بولندا من الإرهاب الألماني، لكن ومثلما هو معروف أن بولندا لم تستقل عام 1945 بشكل نهائي، فالنظام الشيوعي الذي وضعته موسكو بعد ذلك كان نظاما استبداديا، والكثيرون كوزير الخارجية السابق فلاديسلاف بارتوسفسك كانوا مظلومين من قبل هتلر وستالين، لذلك لم تنته الحرب العالمية الثانية بالنسبة للكثيرين من البولنديين في عام 1945 وإنما بعد انتهاء الحرب الباردة في الثمانينيات من القرن الماضي.
اوليفر سامسون/ ترجمة سمير مطر