عشرات المزارعين المغاربة ربما لم يكن يخطر ببالهم يوما أنه سيأتي يوم يُطلب فيه منهم الرحيل عن ضيعاتهم التي يفلحونها منذ عشرات السنين وقد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
في منطقة العرجة على بعد أقل من عشر كيلومترات من مدينة فكيك المغربية الحدودية مع الجزائر، يقول مزارعون مغاربة وممثلون عن هيئات من المجتمع المدني المحلي، إن وفدا من سلطات عسكرية ومدنية جزائرية قدم إليهم منذ أيام وأمهل المزارعين المغاربة بمغادرة ضيعاتهم حتى تاريخ 18 مارس آذار 2021، تحت طائلة الاعتقال لمن لا يغادر.
القرار المنسوب للسلطات الجزائرية أُبلغ شفويا للمزارعين المغاربة ولم يصدر بشأنه تعليق رسمي من سلطات الرباط، فيما تعهد مسؤولون محليون في مدينة فكيك بالسعي إلى إيجاد حل لمواطنيهم الذين عبروا عن صدمة كبيرة ونظموا احتجاجات رفعت خلالها شعارات تطالب بـ"تحرير العرجة" وتحمل الدولة المغربية مسؤولياتها. وحسب تقديرات مزارعين وخبراء محليين فان الضيعات التي يشملها قرار السلطات الجزائرية تضم زهاء 70 ألف شجرة نخيل بالإضافة إلى أصناف أخرى من الزراعات والأشجار، وتعيش منها مئات الأسر.
فما وراء تحريك الرمال الساكنة اليوم وما مصير السكان المحليين الذين شملهم القرار؟ وهل بات قدرا على سكان المناطق الحدودية أن يدفعوا ثمن نزاعات وصراعات الدول؟
مأساة مزارعي العرجة تحيي جروح الماضي
قصة مزارعي العرجة تثير ردود فعل واسعة في المغرب والجزائر، ويبدو أنها تعيد للأذهان حوادث مريرة عاشها سكان المناطق الحدودية بين البلدين منذ أكثر من نصف قرن، ومن أشهرها ما يعرف بـ"حرب الرمال" سنة 1963 التي وصلت نيرانها آنذاك مدينة فكيك.
بعد إستقلالها ورثت الدول المغاربية على إمتداد خارطة حدودها، عشرات النزاعات التي تراوحت سبل تسويتها بين التوافقات والمواجهات العسكرية، وتعد الحدود المغربية الجزائرية أكثر تلك المناطق تعقيدا وشهدت عبر التاريخ أسوأ الحوادث.
"حرب الرمال" التي اندلعت بعد عام واحد على استقلال الجزائر وامتدت لمئات الكيلومترات بين فكيك المغربية وتيندوف الجزائرية، لم تكن سوى شجرة تخفي وراءها غابة من النزاعات تظهر وثائق واتفاقيات دولية عديدة، أن جذورها تعود إلى مئات السنين، وبأن طرد المستعمر لم يكن نهاية مطافها، لا بل إنه كان بمثابة إعلان تفجرها.
فسكان منطقة فكيك وعلى غرار مناطق شرق المغرب الأخرى مثل وجدة التي كانت تحتضن قيادة قوات التحرير الوطني الجزائري، استيقظوا بعد إستقلال الجزائر على نزاع مسلح بين جيشي البلدين بسبب خلاف حول ترسيم الحدود ستدفع المنطقة ثمنه باهضا من أبنائها الذين سقطوا ضحايا.
وبعد وساطات عربية وأفريقية وضعت الحرب أوزارها لكن ظل التوتر سمة بارزة في علاقات البلدين، وسيأخذ مداه مجددا في بداية السبعينيات عبر نزاع الصحراء الغربية.
وفيما يبدو نظرة استباقية لنزاع جديد كان يلوح بنهاية الاستعمار الإسباني، توصل الجاران المغربي والجزائري في سنة 1972 للتفاهم على إتفاقية لترسيم حدود البلدين والتي تمتد شمالا من البحر الأبيض المتوسط حتى تيندوف جنوبا، اتفاقية سارع الجزائريون إلى المصادقة عليها، بينما تأخرت مصادقة الجانب المغربي عشرين عاما، وتحديدا بعد وصول الرئيس محمد بوضياف سنة 1992 للحكم في الجزائر في بدايات أزمة ما يعرف بـ"العشرية السوداء".
لكن توقيع اتفاقية على الورق، أعقبته على الأرض مآسي وحروب. ففي عام 1972 ستنشب أزمة ما يعرف بمصادرة ممتلكات مئات الجزائريين في المغرب دون تعويضهم، وذلك إثر صدور قانون بتأميم ممتلكات الأجانب الزراعية. وفي عام 1975 وعندما بدأ نزاع الصحراء يتصاعد ديبلوماسيا وعسكريا، ستشهد منطقتا غرب الجزائر وشرق المغرب أسوأ مأساة، حيث تعرضت زهاء 45 ألف أسرة مغربية للطرد من مناطق غرب الجزائر.
وستتعرض نفس المنطقة لعملية أشبه ما يكون بقطع الشرايين في نسيجها السكاني المتداخل، وذلك في سنة 1994 عندما قررت السلطات الجزائرية إغلاق الحدود البرية مع المغرب، ردا على قرار الرباط فرض تأشيرات على الرعايا الجزائريين في أعقاب حادث اعتداء إرهابي على فندق أطلس آسني بمراكش. ووسط توترات شبه مزمنة وهواجس أمنية متبادلة شهدت الخطوط الحدودية على إمتداد عشرات الكيلومترات عمليات حفر للخنادق وتشييد جدران وسياجات، لم تزد سوى في معاناة سكان المناطق الحدودية وتشتيت الأسر والقبائل.
العرجة ..مرآة عاكسة
ومع مرور الزمن يبدو أن جروح الماضي لم تندمل بل صارت مزمنة، ورغم محاولات سكان المناطق الحدودية التكيّف مع قساوة السياسة عليهم، فإن أزمة مزارع العرجة تفتح فصلا جديدا من معاناة سكان المناطق الحدودية وخصوصا منها القريبة من نقاط متنازع عليها، كما تشكل نموذجا لطبيعة المشاكل التي تزداد بين البلدين مع مرور الزمن تعقيدا، في غياب آفاق واضحة لتسويتها. وتأتي هذه الأزمة وسط توتر ملحوظ بين البلدين.
وفيما يبدو توضيحا منها لقرارها قالت السلطات الجزائرية بأنها قامت "بغلق المنافذ التي كانت تستعملها عصابات الجريمة المنظمة لتهريب المخدرات على مستوى واحة لعروضة بمنطقة بني ونيف بولاية بشار جنوب غربي البلاد على الحدود مع المغرب". وأضاف بيان بثته وكالة الانباء الجزائرية الرسمية الأربعاء 17 مارس آذار 2021، أن "هذا الإغلاق جاء في إطارالمستجدات الإقليمية وتعزيزا لجهود الدولة الجزائرية في تأمين شريطها الحدودي، وبعد الاخلال بكيفية استغلال بعض الأراضي الجزائرية من قبل مواطنين مغاربة في واحة لعروضة". وأشارت إلى أن الجزائر"قدمت مهلة للفلاحين والمزارعين المغاربة المستغلين للأراضي الجزائرية الواقعة بهذه المنطقة، لإخلاء الأراضي الجزائرية في الآجال التي تم الاتفاق عليها".
ولم ترد السلطات المغربية رسميا على الخطوة الجزائرية، فيما يسود منطقة فكيك توتر واحتجاجات من قبل السكان وهيئات المجتمع المدني، الذين يطالبون سلطات بلادهم بالتدخل لوقف عمليات إبعاد المزارعين المغاربة من ضيعاتهم التي أفنوا أعمارهم في زراعتها.
وبرأي الدكتور أحمد نور الدين وهو خبير مغربي في العلاقات الدولية وينحدر من منطقة فكيك، فإنه "كان من الواجب وليس فقط من اللباقة، قانونيا ودبلوماسيا، أن تطلب السلطات الجزائرية من نظيرتها المغربية ابلاغ الفلاحين بالاخلاء مع اعطاء مهلة كافية لنقل ممتلكاتهم، والاتفاق على صيغة بين الدولتين لتعويض الفلاحين الذين لديهم رسوم ملكية تعود إلى قرون خلت قبل تسطير الحدود من طرف الاستعمار الفرنسي. اما اتصال الجيش الجزائري مباشرة بالمزارعين وتحديد أجل لا يتجاوز أربعة أسابيع لإخلاء المزارع فهذا لا يراعي أدنى القواعد والأعراف الدبلوماسية التي تقتضي أن يكون الاتصال عبر القنوات الرسمية وليس مباشرة مع المواطنين".
وفي تعليقه على بيان السلطات الجزائرية الذي يشير إلى أن منطقة العرجة تعتبر داخل الحدود الجزائرية وفقا لاتفاقية 1972، يلاحظ الدكتور نور الدين بأن سكان فكيك يقولون إن "الوادي غير المسمى" والذي تتحدث عنه الاتفاقية هو وادي يقع خلف الجبل باتجاه الشرق، أما وادي العرجة الذي تريد الجزائر أن تجعله خطا حدوديا فاصلا، فاسمه معروف منذ القدم وورد بهذا الاسم في وثائق فرنسية تعود إلى 1901؛ "اذن لا يمكن أن تصفه اتفاقية 1972 بغير المسمى؛ أي مجهول الاسم!"، يلاحظ الخبير المغربي الذي يربط بين القرار الجزائري وأجواء التوتر القائم مع المغرب على خلفية الأزمة التي وقعت في نهاية السنة الماضية في معبر الكركارات على الحدود مع موريتانيا، وصولا إلى قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الإعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
وفي حوار لموقع هسبريس المغربي يذهب الخبير المغربي في وصف الخطوة الجزائرية بـ"الاستفزازية" ويضيف قائلا: "المغرب لا يريد إعطاء الفرصة لجنرالات الجزائر لإشعال حرب جديدة بين البلدين لصرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية المتوترة بالجزائر وعودة الحراك إلى الشارع".
وتنظر الجزائر بعين القلق للتطورات الأخيرة المرتبطة بالصحراء والتي تزامنت مع إعلان استئناف العلاقت الديبلوماسية بين المغرب وإسرائيل. وربط مراقبون بين القلق الجزائري ومناورات عسكرية برية وجوية كبرى قام بها الجيش الجزائري في يناير كانون الثاني الماضي في منطقة تندوف في جنوب البلاد حيث يوجد مقر قيادة جبهة البوليساريو وعلى مقربة من الحدود مع المغرب.
وأشرف الفريق السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الجزائري، على المناورات التي استخدمت فيها الذخيرة الحية، والنسخة الأحدث من صاروخ كورنيت الروسي المضادّ للدبّابات.
وتكشف التطورات التي تشهدها المنطقة تظافر المؤشرات السلبية باتجاه التوتر، في ظل انعدام إشارات الحوار أو الاتصال الديبلوماسي لبحث القضايا الخلافية القائمة بين البلدين سواء المستجدة منها أو المزمنة، ما يبعث مخاوف جديدة ومزيد من التداعيات السلبية على أوضاع سكان المناطق الحدودية.
عندما يتحول الحلم المغاربي إلى كوابيس!
من مفارقات الزمن أن تاريخ 18 مارس آذار الذي وضعته السلطات الجزائرية كآخر مهلة للمزارعين المغاربة لمغادرة ضيعاتهم في منطقة العرجة، يصادف مرور 61 عاما على توقيع فرنسا والحكومة الجزائرية المؤقتة للثورة الجزائرية اتفاقيات إيفيان، التي وضعت حدا لحرب الجزائر تمهيدا لإعلان استقلالها. وتفاوضت فرنسا مع المغرب وتونس على إستقلالهما الذين أعلن سنة 1956، وإختارت قيادة البلدين إبانها وتضامنا مع الجزائريين في كفاحهم ضد الاستعمار، تأجيل التفاوض مع المستعمر الفرنسي على بعض المناطق الخلافية في الحدود، في انتظار بحثها مع قيادة الجزائر المستقلة وفي أفق تحقيق حلم "الوحدة المغاربية".
ومع بدايات إستقلال الجزائر نشبت توترات ونزاعات على مناطق حدودية مع كل من تونس والمغرب، وتمت تسوية الخلاف مبكرا مع تونس بالاتفاق على ترسيم الحدود. بيد أن النزاع مع المغرب أخذا طابعا أكثر تعقيدا. ويؤاخذ المغرب جارته الجزائر على ما يعتبره"نكثا" للعهد الذي أبرم مع الحكومة الجزائرية المؤقتة قبيل الاستقلال بقيادة الراحل فرحات عباس، بشأن تسوية الحدود. بينما يقول الجزائريون إن حرب الرمال تعتبر جرحا لم يندمل، لأنها جاءت في وقت ما يزال البلد لم يمض عاما واحدا بعد استقلاله.
وتبدو اليوم قضية مزارعي منطقة العرجة أشبه ما يكون بمرآة سيارة تعكس مشاهد الرؤية إلى الخلف ولعقود من النزاعات المزمنة وسوء التفاهم والخلافات المعلّقة. لكن المشهد ينطوي أيضا على تراكم من المشاكل التي يعاني منها حاليا ملايين من سكان المناطق الحدودية في المنطقة المغاربية بكاملها.
وحتى على الحدود بين الجزائر وتونس، ورغم جودة العلاقات، فإن سكان المناطق الحدودية هم الأكثر فقرا وتهميشا. ولكن الشباب ما يزال يدغدغه الحلم، فقبل أيام أطلق شبان تونسيون مبادرة لتنشيط الحياة الثقافية بين مدينتي سوق هراس الجزائرية وغار الدماء التونسية، في محاولة لتشجيع الاقتصاد بين المدينتين الحدوديتين الفقيرتين واللتين كانتا في زمن الاستعمار الفرنسي ترمزان إلى امتزاج الدم الجزائري والتونسي في سبيل التحرر.
وبعد أن كانت شعوب المنطقة تحلم بتحقيق الوحدة أو الاندماج المغاربي، باتت تتمنى عدم قيام حرب جديدة. أما سكان المناطق الحدودية الذين امتزجت دماؤهم عبر التاريخ بحكم أواصر القرابة وبالتضحية في الكفاح ضد الاستعمار، فقد باتوا يخشون مما تحمله لهم الأيام من مآسي جديدة تفرق بين الأسرة الواحدة وتشتت شملهم، وتغرقهم في مزيد من المعاناة الاجتماعية والاقتصادية.
يحدث هذا بمرارة وهم يتطلعون إلى تجارب ونجاحات تحققها شعوب في الضفة الشمالية كانت فيما بينها بالأمس القريب حروب طاحنة. فبين ألمانيا وفرنسا وبعد عقود من الحروب، ستتحول منطقة ألزاس لوران من بؤرة نزاع إلى منطقة تفاهم واندماج بل مهدا للوحدة الأوروبية. وعلى حدود ألمانيا والتشيك وبولونيا، لم يكن التفاوت الاقتصادي والنزاعات التاريخية عائقا في سبيل تحول مناطق حدودية مثل منطقة تزيتاو إلى نموذج للاندماج بين الجوار.
منصف السليمي