تلامذة غوبلز يتفوَّقون على أستاذهم
١٠ أغسطس ٢٠١١جوزيف غوبلز، وزير الدعاية في عهد هتلر وألمانيا النازية، صاحب مقولة: "أكذب، ثم أكذب، ثم أكذب حتى يصدقك الناس... وحتى تصدق نفسك!"، صار له تلامذة تفوقوا عليه في الكذب والتضليل، فمقولته هذه أصبحت مبدأً تعمل بموجبه الصحف العربية المعادية للعملية السياسية في العراق. وفي مقدمتها الصحافة السعودية الوهابية التي فاقت الجميع في حملتها المتواصلة بنشر الأكاذيب والاتهامات الباطلة ضد العراق الجديد. لا لشيء، إلا لأن حق المشاركة في الحكم قد صار لجميع مكونات الشعب العراقي، وحسب ما تفرزه صناديق الاقتراع. وهذا النظام يرفضه أعداء الديمقراطية، وبالأخص الذين أدمنوا على حكم الاستبداد واحتكار السلطة والنفوذ لعشرات السنين.
كانت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، تمتلك قدراً كبيراً من المصداقية عندما كان يترأس هيئة تحريرها صحافيون محترمون من أمثال الأستاذ عبدالرحمن الراشد، الذي نجح في رفع مستوى الصحيفة إلى مستوى الصحف البريطانية، حيث أجتذب إليها نخبة من الكتاب التنويريين الليبراليين، والصحافيين المحترفين، من العرب وغير العرب. ممن يمدون الصحيفة بمقالات تنويرية قيمة، وتقارير اخبارية ذات مصداقية عالية. لكن منذ أن حل طارق الحميد محل الراشد، بدأ مستوى الصحيفة بالهبوط، خاصة في الافتتاحيات التي يكتبها رئيس التحرير الحميد، وبالخصوص التقارير التي تخص العراق، حيث صار ديدنهم العزف على الوتر الطائفي النشاز وتضليل الناس، والعمل على وأد الديمقراطية الوليدة.
وآخر ما طالعنا في هذا الخصوص، هو تقرير للسيد معد فياض، مراسل الصحيفة، في 2/8/2011، بعنوان بارز: "قيادي في التحالف الوطني يكشف لـ«الشرق الأوسط» عن دعم مالي عراقي لسوريا"، وعنوان ثانوي: "قال إن المالكي وافق على دفع 10 مليارات دولار لدمشق بأوامر إيرانية". وكالعادة، يلجأ هؤلاء إلى إخفاء مصدر المعلومة بطلب منه "لأسباب أمنية!!" كما يدعون. والتقرير هو من الوزن الغوبلزي الثقيل، عبارة عن قنبلة من الافتراءات السخيفة الغبية التي يستحق عليها المراسل، الجائزة الغوبلزية الأولى، ولا شك فإن الأستاذ غوبلز يرقص فرحاً وفخراً في قبره على ما ينجزه تلامذته الجدد، الذين فاقوه في الكذب والتضليل.
يبدأ السيد معد فياض تقريره قائلاً: «كشف مصدر بارز في التحالف الوطني العراقي ...عن أن "إيران ضغطت على حلفائها في بغداد من أجل دعم السلطات السورية بمبلغ 10 مليارات دولار"، مشيرا إلى أن «المالكي رضخ لهذا المطلب الإيراني وقام بالفعل بدعم الرئيس السوري بشار الأسد ماديا». ولم يتردد الكاتب بالعزف على الوتر الطائفي النشاز بقوله: «التحالف الوطني، الذي يضم أحزابا شيعية مدعومة من قبل إيران». والتأكيد على أن المدعو قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، هو الحاكم الفعلي للعراق، وهذا ما يؤكده طارق الحميد في افتتاحياته باستمرار إلى حد أن صار كل من يشك به، إسلامياً، وطائفياً، وعميلاً لإيران ونظام ولاية الفقيه!!.
ويضيف المراسل نقلاً عن القيادي المزعوم في التحالف الوطني قوله: «إن السفير الإيراني في بغداد، حسن دنائي فر، نقل رسائل شفوية من مرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي، والجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، إلى قادة التحالف الوطني، كل على حدةٍ، تتضمن ضرورة دعم الرئيس السوري ماديا وبمبلغ حدده بـ 10 مليارات دولار»، مشيرا إلى أن «الطلب الذي جاء بصيغة أوامر قد وافق عليه المالكي باعتباره رئيسا للحكومة العراقية». ولتحريض الشعب العراقي على المالكي، يضيف الكاتب نقلاً عن القيادي في التحالف: «إننا في التحالف الوطني نعاني من الإحراج، كون الشعب العراقي يعاني من أزمات اقتصادية حادة بينما نوافق على دفع مبلغ 10 مليارات دولار لإنقاذ الرئيس السوري من محنته بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه».
لا أعتقد أن القارئ يحتاج إلى عبقرية ليكشف مدى الكذب والخداع والدس والتحريض الرخيص في هذا التقرير البائس، وهذه استهانة واستخفاف بعقل القارئ العربي. فالقيادي المزعوم لا وجود له إلا في مخيلة كاتب التقرير، وفي مختبرات التلفيقات والافتراءات التي يجيدها أولئك الذين خانوا شرف المهنة. والمفروض بالصحافي الشريف النزيه أن يبحث عن الحقيقة وينشرها إلى الناس، ويرفع مستوى وعيهم، لا الكذب الصريح على القراء وتضليلهم. إذ تفيد الحكمة: "حدث العاقل بما لا يليق، فإن صدق فلا عقل له".
لا شك أن السيد معد فياض يستخف بعقول القراء عندما يكتب هذه الأكاذيب المكشوفة. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان "الأمر البابوي" من السيد علي خامنئي في منتهى السرية، بحيث "أمر" رئيس الحكومة العراقية، شفوياً من خلال السفير والسليماني، وعلى شكل همسات وراء الجدران، فكيف وصلت هذه الهمسات إلى أذن السيد معد فياض، لينشرها وكأنها حقائق، كتلك التي كان ينشرها أستاذهم السيئ الصيت، غوبلز، ومن بعده تلامذته الأوفياء من أمثال: أحمد سعيد، ومحمد سعيد الصحاف، المعروف في الغرب بـ (Comical Ali)؟ وإذا كان المالكي غير مخول لتخصيص مبلغ لبناء محطة توليد الكهرباء إلا بموافقة مجلس الوزراء والبرلمان، فكيف يستطيع أن يدفع 10 مليار دولار لبشار الأسد دون الرجوع إلى مجلسي الوزراء والبرلمان؟ (اكذب ثم اكذب يا سيد معد حتى تصدق نفسك!)
لا نريد أن نظلم كاتب التقرير، ولا رئيس تحرير (الشرق الأوسط)، فهؤلاء يراعون خبزتهم، ولا بد أن يقولوا ما يرضي أولياء النعمة، مالكي الصحيفة. لأن السياسة السعودية الوهابية تقضي بمحاربة أية حكومة عراقية يكون رئيسها شيعي، أو حتى سني، يرفض التمييز الطائفي. فأي شيعي يترأس الحكومة العراقية هو تجاوز للخط الأحمر السعودي خاصة، والعربي عامة، وخروج على المألوف والموروث التركي العثماني. ولذلك لما حاول الزعيم عبدالكريم قاسم، (وهو من أب عربي مسلم سني)، إلغاء التفرقة الطائفية والعرقية بين العراقيين، حاربوه واتهموه بالشيوعية والشعوبية، وانتقموا منه شر انتقام.
وفي عهد الزعيم قاسم كانت المعزوفة أن العراق صار مستعمرة سوفيتية، يحكمه الشيوعيون الموالون للسوفيت!!. أما اليوم، فالنغمة ذاتها مع تبديل في الأسماء، حيث صار العراق مستعمرة إيرانية، ويحكمه الشيعة الموالون لحكام طهران. وتهمة الحكم الشيوعي استبدلت بالحكم الشيعي، وحلت إيران محل الاتحاد السوفيتي، وكأن ليس في العراق سياسيون عراقيون جديرون بحكم بلادهم، والتمسك بالسيادة الوطنية، بعيداً عن الوصاية السوفيتية أو الإيرانية. إن الغرض من هذه الاتهامات في العهدين واحد، ألا وهو إفشال الديمقراطية وتمزيق الشعب، وإعادة الحكم الطائفي لمكونة واحدة ترضى بها السعودية وشقيقاتها الحكومات العربية كما كان الوضع قبل 2003.
لن نستغرب إذا نشرت صحيفة سعودية حاقدة على العراق الجديد تقريراً حافلاً بالأكاذيب والاتهامات الباطلة، ولكننا نستغرب بشدة، أن تقوم صحافة الحزب الشيوعي العراقي بإعادة نشر هذا التقرير المضلل، وكأن صحيفة (الشرق الأوسط) محدودة الانتشار، تحتاج إلى مساعدة من الصحافة الشيوعية العراقية لنشر "الكلمة الخيِّرة"!. وهذا يعني أن المحرر الشيوعي لم يقدم على إعادة نشر التقرير ما لم يكن مؤمناً بصحة ما جاء فيه، وأن في إعادة نشره خدمة جليلة للمصلحة الوطنية ولتعميم الفائدة!.
وهنا لا أعرف كيف عبرت الخدعة على الرفاق. لا شك إنهم عملوا وفق مبدأ "عدو عدوي صديقي"، وهو مبدأ خطير وقاتل. وهم يعتبرون نوري المالكي وتحالفه الوطني "الشيعي الموالي لإيران" عدواً لهم، والصحافة السعودية عدوة للمالكي وتحالفه، فإذنْ، النظام السعودي وصحافته صاروا بقدرة قادر أصدقاء مخلصين للحزب الشيوعي العراقي، عجبي!. فقبل أشهر نشر أحدهم أن "المالكي أهدى أربع فرق عسكرية للتيار الصدري" لشراء دعمهم له. واليوم نقرأ: "المالكي وافق على دفع 10 مليارات دولار لدمشق بأوامر إيرانية" وهناك قائمة طويلة من هذا النوع من الأكاذيب والافتراءات لا حصر لها. ولله في خلقه شؤون، إذ كما يقول لينين: "التهمة تفيد وإن كانت باطلة". لقد أوقع الشيوعيون أنفسهم في ورطة ما كنا نتمنى لهم أن يقعوا فيه.
لا شك أن شيوعيي عهد ثورة 14 تموز كانوا أشطر وأكثر حذراً من شيوعيي اليوم. بإمكانياتهم المتواضعة آنذاك، حيث لا انترنت ولا فضائيات، استطاعوا الإيقاع بأكبر إمبراطورية إعلامية في الشرق الأوسط، ألا وهو الإعلام المصري العملاق، وعلى رأسه البوق الناصري المعروف، أحمد سعيد في إذاعة "صوت العرب"، فدسوا له خبراً ملفقاً مفاده: قيام "المناضلة القومية" حسنة ملص، و"المناضل القومي" عباس بيزة بقيادة مظاهرة ضخمة في منطقة الميدان في بغداد ضد حكومة "العميل الشيوعي قاسم العراق وأنصاره الشيوعيين، عملاء السوفيت". وتلقف أحمد سعيد الخبر بفرح الأطفال السذج، وراح يذيعه على جميع الموجات مع المارشات العسكرية والأناشيد الحماسية مثل نشيد ألله أكبر، وأمجاد يا عرب أمجاد، لإثارة المشاعر. لم يعرف المخدوع أن حسنة ملص كانت مومس، وعباس بيزة قوادها في منطقة الميدان، وكلاهما كانا مشهورين في بغداد آنذاك، فكانت نكتة الموسم، أثارت الضحك على الإعلام المصري في حينه، وأحرجت القوميين العروبيين في العراق. أين ذاك مما يجري اليوم، حيث صارت الصحافة السعودية تستدرج الصحافة الشيوعية إلى الفخ الإعلامي المثير للسخرية...
وبالمناسبة؛ كان الإعلام المصري الغوبلزي يسمي الزعيم عبدالكريم قاسم بـ(عبدالكرملين)، أي أنه كان عبداً وألعوبة بأيدي حكام الكرملين في موسكو، بمثل ما يوصف السيد نوري المالكي اليوم أنه ألعوبة بيد حكام طهران، فيأمره علي خامنئي بدفع 10 مليارات دولار إلى بشار الأسد، فيمتثل للأمر وهو صاغر!!.. فما أشبه اليوم بالبارحة.
نحن نعتب على الشيوعيين، لأنهم آخر من يجب أن يصدق ويروِّج لتهمة العمالة لإيران، خاصة بعد أن هجَّر البعثيون نحو مليون عراقي بتهمة التبعية الإيرانية، كان الشيوعيون أنفسهم ضحية هذه التهمة الباطلة من قبل التيار العروبي منذ ثورة 14 تموز عندما احتدم الصراع الدموي بين التيارين، العروبي والوطني اليساري، حيث شكك العروبيون بأصل زعيم الحزب الشيوعي، الشهيد سلام عادل (حسين الرضي)، وقالوا أن لقبه ليس الرضي بل الرضوي!! وهو لقب إيراني على وزن رجوي وصفوي..الخ. وكذلك الأستاذ عزيز الحاج، القيادي الشيوعي السابق، لم يسلم من تهمة التبعية الإيرانية، إذ كما ذكر هو في كتابه الموسوم (شهادة للتاريخ)، أنه إثناء اعتقاله في قصر النهاية سيء الصيت عام 1969، كان سجانوه والمحققون البعثيون ينادونه بعزيز قلي، في إشارة لئيمة وخبيثة إلى أنه عجمي إيراني! وبعد كل ذلك، هل نسي الشيوعيون هذه السلوكيات والتشكيك في أصول العراقيين، واتهامهم بالعمالة للسوفيت ولإيران، حتى يعيدوا نشر تلفيقات الصحف السعودية ومعاملتها كحقائق غير قابلة للتشكيك؟
لا نريد هنا أن ننزه الحكومة العراقية من الأخطاء، فهناك مشاكل كثيرة متراكمة عبر قرون، مثل الطائفية وتفشي الجريمة والفساد، والنقص في الخدمات، والرواتب الخيالية للمسؤولين..الخ، ولكننا نعتقد أن هذه المشاكل يجب مواجهتها بالنقد البناء الهادئ والعقلانية وتهدئة الوضع، والعمل المثابر على نشر ثقافة التنوير في أوساط الشعب. فمن الخطأ الكبير، بل ومن الجريمة، معالجة هذه المشاكل عن طريق كيل الأكاذيب والتلفيقات وغيرها من الأساليب الملتوية التي اشتهرت بها الصحافة العربية. لذلك لا يلام العرب عندما لا يصدقون كلاماً قالوا عنه: "هذا حكي جرايد!!" لأن الجرائد العربية فقدت مصداقيتها، وما تقرير معد فياض المشار إليه أعلاه إلا النموذج الكلاسيكي لهذا الكذب العربي بامتياز!.
د.عبدالخالق حسين
مراجعة: عباس الخشالي