تونس ـ أزمة اقتصادية خانقة وتحذيرات من "انفجار اجتماعي"
٣٠ أبريل ٢٠٢٢يمتد طابور خارج مكتب البريد بمدينة باردو الى نحو 50 مترا الى الخارج، حيث يصطف المواطنون في انتظار تسلم مرتباتهم وجرايات (معاشات) المتقاعدين عشية عيد الفطر، وسط ضائقة مالية واضحة المعالم.
ووسط الطابور يقف البحري الخليدي موظف متقاعد في سن 67 عاما بملامح يغلب عليها القلق. لم تكن لديه رغبة في البداية للحديث لقناعته بأن صراخ المواطنين وشكاويهم أصبحت مجرد كلام في الهواء ولا يجد آذانا صاغية من السلطة والحكومة.
الغلاء تحول الى كابوس للتونسيين
ولكن بعد تردد قال لـ DW متذمرا من غلاء كلفة المعيشة في مقابل ثبات مرتب التقاعد "الفرق شاسع بين ما نقبضه من الدولة من جهة وكلفة المعيشة من جهة أخرى. المرتب لا يغطي شهرا. الأمر أشبه بشخص يعيش في دولة أوروبية ويتلقى راتبا بالدينار التونسي".
وتابع الخليدي في حديثه أن الأمر الأكثر تعقيدا اليوم أن التونسيين باتوا يواجهون صعوبة لتغطية كلفة الأساسيات اليومية للطعام، "فالأسعار ملتهبة والسؤال هو كيف لغالبية المواطنين أن تتعايش مع هذا الواقع اذا ما أخذنا بعين الاعتبار معدل الدخل الشهري للطبقة الوسطى"، الذي لا يتجاوز في الغالب الألف دينار (حوالي 300 دولار أمريكي).
وقد حذر الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة الأكبر في البلاد، بالفعل من انفجار اجتماعي إذا ما تواصلت أزمة الأسعار وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين في بلد يساوي الأجر الأدنى المضمون فيه نحو 450 دينارا؛ أي ما يعادل قرابة 150 أورو، بينما تقدر كلفة المعيشة شهريا لزوجين بنحو 2200 دينار، وفق دراسة أعدها مكتب منظمة "فريدريش ايبيرت " في تونس.
والصعوبات تبدو مضاعفة لفئات واسعة من العمال في تونس اللذين يعملون من دون عقود أو تغطيات اجتماعية. ويسمى هؤلاء بعملة "الحضائر" الذين يضطرون للانتظار لسنوات من أجل إدماجهم وتسوية أوضاعهم المهنية، ومن بينهم ابنة البحيري الخليدي التي تقطن في القصرين غرب تونس وتعمل بإحدى المنشآت الجهوية التابعة لوزارة الفلاحة منذ نحو أربع سنوات بمرتب لا يتجاوز 100 دولار شهريا، بينما يتقاضى زوجها العامل بمصنع 150 دولارا، وفق إفادة والدها.
ويقول الخليدي بتأثر "بالرغم من تدني هذا المرتب فإن الدولة لم تصرفه لها بعد ونحن مقبلون على العيد. ابنتي تلقت الوعود منذ سنوات لتسوية وضعيتها لكن لا أحد يعرف متى. حتى اليوم أنا متقاعد ولا زلت أرسل إليها حوالات مالية حتى تجابه الحياة الصعبة".
ولا تبدو ابنة الموظف المتقاعد وحدها في المعاناة، إذ تشكو أمل التي تنتظر دورها في الطابور لتسلم مرتبها في حيرة من أمرها بين تأمين متطلبات عيد الفطر والضغوط المنغصة لدفع فاتورة الكهرباء.
تعمل أمل البالغة من العمر 33 عاما مساعدة في عيادة بيطرية وتتقاضى شهريا 500 دينار، وهو نفس المرتب الذي يتقاضاه زوجها العامل بمصنع، وهي ليست واثقة بأن المرتب سيغطي أسبوعا واحدا من الشهر التالي اذا ما خصصت منه قسطا لشراء بدلات العيد لطفليها. وتضيف في حديثها لـDW عربية "نتعاون أنا وزوجي. أنفقنا كل المبلغ في شهر رمضان. أسعار الغذاء أصبحت باهضة وبالكاد يتسنى لنا تغطية الإيجار والكهرباء إذ لا يتبقى إلا القليل".
تفاؤل رسمي يقابله تشاؤم الخبراء
ومثل أمل والبحري تتفشى حالة القلق في الشارع التونسي لدى عموم التونسيين، ليس من الغلاء وحده ولكن مما ستفضي إليه الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة لانعاش الاقتصاد العليل واستعادة النمو بعد تسجيل مستويات قياسية من الانكماش وصلت الى مستوى 8 بالمئة عقب جائحة كورونا في 2020. واستمر الانحدار الاقتصادي والمالي حتى بعد 25 تموز/يوليو.
وتتوقف تلك الإصلاحات على موقف صندوق النقد الدولي من المشاورات التقنية الجارية مع الحكومة التونسية، حيث طالب بحزمة من الأولويات العاجلة في أجندة الإصلاح من بينها خفض الدعم تدريجيا وإصلاح المؤسسات العمومية المتعثرة وتخفيض الأعداد الهائلة للموظفين في القطاع العام. وليس واضحا مسار هذه المشاورات على الرغم من النبرة الإيجابية التي سيطرت على تصريحات وزراء حكومة نجلاء بودن، ومن بينها وزيرة المالية سهام البوغديري.
ولا يتفق الخبير الاقتصادي الصغير الصالحي مع تلك النبرة وكشف في حديثه مع DW عربية قائلا "الانطباع السائد لدى البنك الدولي أن الدولة التونسية تماطل وتتحايل باعتماد استراتيجية عدم التغيير وهو انطباع ساد على امتداد العقد الأخير مع جميع الحكومات التي ترغب في المحافظة على مصالح محددة للأحزاب والمنظومة القديمة".
ويذهب الصالحي في تحليله إلى أن لا نية للحكومة للإصلاح أو أنها لا ترغب في الإضرار بمصالح القوى التقليدية والبيروقراطية الإدارية والعائلات المسيطرة على عدة قطاعات والتي تسمى بـ"المخزن الاقتصادي"، مضيفا "أن الأكثر وضوحا في خطابات الرئيس قيس سعيد هو مغازلته للقوى التقليدية النافذة في الاقتصاد خشية ردة فعلها لذلك لا يقدم على الإصلاحات وفضل بدل ذلك الاعتماد على أجهزة غير محايدة لتعزيز حكمه".
وثمة قلق حقيقي في الشارع من إفلاس وشيك للدولة بعد "صدمة لبنان" وسط أنباء وتحليلات متضاربة من محللين اقتصاديين بشأن امكانية تأخر تونس عن سداد ديونها أو اقدامها في ابريل على طلب قرض بقيمة 750 مليون دولار من البنك الافريقي للاستيراد والتصدير لسداد أجور الموظفين، وهو ما ذهب إليه الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان.
وفي تقدير الصغير الصالحي فإن الإفلاس وارد نظريا مع إمكانية تهديده للسلم الأهلي مثلما حصل في عدد من الدول. وبرأيه هناك من يساندون هذا المنحى للاستفادة من الوضع. ولكن الصالحي يرى أن المخرج ممكن عبر "الأزمة" نفسها، حيث يمكن أن تفضي في نهاية المطاف الى خسائر لكن ليس بنفس القدر للجميع كما ليس في نفس التوقيت، ويعني ذلك أن الأطراف الرافضة للخسائر ستتخلى عن تضامنها المصلحي مع قطاعات أخرى فتفتح مجالا لبداية للإصلاح، حسب تحليله.
"خطو حمراء" ولكن..
ومع كل البدائل الممكن التي ساقها خبراء الاقتصاد في تونس فإن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتمتع بنفوذ قوي في الشارع التونسي وضع خطوط حمراء، قد تجعل من المفاوضات مع صندوق النقد على المحك. ففي حين يطالب صندوق النقد بشرط وجود توافق عام مع كل الشركاء بما في ذلك اتحاد الشغل قبل تمرير برنامج الإصلاحات فإن الاتحاد يرفض من حيث المبدأ المساس بالمؤسسات العمومية أو التفريط فيها كما يعترض على خطط خفض الدعم أو تجميد كتلة الأجور ومنع الزيادات، بل أنه يطالب بتطبيق اتفاقات سابقة تشمل الزيادات لمواجهة غلاء المعيشة وحماية القدرة الشرائية للعمال.
وعشية الاحتفال بعيد العمال حذرت النقابة المركزية في بيان لها من أن الاتحاد لن يبقى مكتوف الأيدي ولن يقبل بتبخر فرص التغيير الأخيرة، موجها انتقادات لاذعة لعدم الاستقرار السياسي في البلاد ولما سماه بسياسة "التخبط والارتجال".
كان الاتحاد أول من حذر من انفجار اجتماعي في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية وتعقد الوضع السياسي بعد إعلان الرئيس قيس سعيد ما عرف بـ"التدابير الاستثنائية" في البلاد وتفضيله لقيادة البلاد بشكل فردي ودون حوار وطني.
ولكن بعيدا عن ذلك فإن لا أحد يتوقع مسار الأزمة في الشارع. ومثل الكثير من المواطنين الذين لا يملكون خلفية واسعة عن الإصلاحات الاقتصادية التي تنوي الحكومة الدفع بها، حذرت أمل قائلة "اذا رفعوا الدعم بكل بساطة التونسيون سيموتون جوعا".
ويقول بدوره البحري "ليس واضحا الصيغة التي ستعتمد في ذلك، ولكن من الواضح أن كلفة المعيشة ستزداد غلاء. الأمر معقد حتى إذا حاولت الدولة حصر المستفيدين فكيف سيحصل هذا هناك مواطنون لا يملكون أي شيء ولا وثائق لهم كيف سيتم حصرهم رقميا في قاعدة البيانات".
تونس – طارق القيزاني