جبّانات القاهرة ـ مراقد الموتى.. مأوى لأهل الدنيا!
٢٩ يونيو ٢٠١٨أجبرت الظروف الاقتصادية المتدهورة والتكدُّس السكاني عددًا من المصريين على أن يعيشوا وسط الموتى في المقابر في ظل انعدام المرافق والخدمات العامة، وفي هذا الإطار ظهرت بعض المبادرات الإنسانية التي تهدف لمساعدتهم بين الحين والآخر، وآخر تلك المبادرات هي مبادرة "وطن إنساني". بيد أن العدد في تزايد مستمر والمبادرات الإنسانية غير قادرة على احتواء الظاهرة برمتها.
حلم الحصول على شقة
وسط المقابر يسود هدوء تام لا يقطعه سوى أصوات الكلاب الضالّة وضجيج بعض البشر الذين اضطروا أن يعيشوا في هذا المكان؛ ومنهم وفدية عبد الحميد، 70 عامًا، التي تسكن في المقابر في محافظة القاهرة منذ 55 عامًا. رغم محاولاتها المستمرة للبحث عن مسكن لها، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل. تقول لـDW عربية: "منذ أكثر من 20 عامًا وأنا أقدم أوراقي للحكومة ولكن لم تتجاوب الحكومة مع مطلبي". وهو أمر يشعرها بالأسف والحزن الشديد، خاصة وأن معظم جيرانها حصلوا على شقة.
وفدية عبد الحميد تعيش مع أحفادها وهي تتولى مسؤوليتهم بعد وفاة والدتهم. وتحصل على معاش شهري من الحكومة قدره 1200 جنيه أي ما يعادل 55 يورو، ولا يغطي هذا المبلغ مصاريف علاجها. وتضيف "انتظر مساعدات إنسانية من الأهالي أو الجمعيات الأهلية للحصول على الوجبات الغذائية، وأحرم أحفادي من أبسط احتياجاتهم".
عبد الحميد تعيش داخل المقابر في غرفة لا تتوفر فيها ظروف إنسانية تؤهل على العيش ومطبخ دون حمام، وتضطر إلى قضاء الحاجة في الشارع أو عند جيرانها. وكانت ضمن أحلامها أن تشرب مياه مثلجة، واستجاب لها الأهالي بشراء ثلاجة منذ عام. ولكن لها حلم آخر يراودها منذ 55 عامًا حتى الآن، رغم بساطته ولكنه لم يتحقق وهو العيش في شقة. قائلة "أنا عجوز ويائسة من الحياة، ولكني أحلم بالحصول على شقة أعيش فيها ولو لشهر ثم أموت كي أجرب حياة الناس العاديين الذين لديهم حمام ومنزل". خاتمة حديثها وهي منهارة من البكاء "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
اتخذوا من مقابر أقاربهم منزلًا
محمد جمال، شاب في الثلاثين من عمره، حلمه أن يحصل على شقة ليتزوج فيها، عامل في تركيب الرخام، يعيش في المقابر منذ 25 عامًا. كان طفلًا لم يتجاوز الخمسة أعوام عندما ترك منزلهم في منطقة شعبية بسبب تسرب المياه، وهو ظرف أجبر عائلته على ترك الشقة والعيش في مقابر عائلتهم ليجدوا الراحة بينهم. محاولات من عائلة جمال لعدة سنوات لإصلاح العطل الفني الكبير في شقتهم دون فائدة.
جمال لا يرى بادرة أمل للحصول على شقق من الحكومة، خاصة وأنه لن يتمكن من سداد قيمة الإيجار الشهري لشقق مثل مدينة تحيا مصر في الأسمرات بمنطقة المقطم. متسائلًا باستنكار: "ماذا أفعل وأنا دخلي محدود، وأعمل بشكل غير منتظم، أسرق مثلا!؟"
جمال يعيش مع والده ووالدته وأخواته الفتيات، وهو يتحمل المصاريف الكاملة لأسرته، وأكثر الصعوبات التي يتعرض لها هو الحصول على دواء لوالده ووالدته في ظل ارتفاع أسعار الأدوية في مصر. ولا يحصل جمال على مساعدات مادية والديون تتراكم عليه.
ولا يشعر جمال بالأمان على عائلته، قائلاً" هناك حرامية وبلطجية منتشرين في المقابر، وتعرضنا لحوادث سرقة عدة مرات". ومن المواقف الصعبة التي يشعر فيها بأسف شديد هو عدم قدرته للسماح لأخواته البنات بالخروج خارج المقابر في الليل. عبّر جمال عن أمله في الحصول على شقة، وأنه لن يسمح لنفسه أن يستمر كثيرًا في تلك المقابر.
مبادرة وطن إنساني لتنمية سكان المقابر
يصل عدد سكان المقابر إلى خمسة ملايين مواطن يعيشون في ضيافة الموتى وهي أعداد قابلة للزيادة في ظل الارتفاع المضطرد للأسعار في مصر، وطرحت هاجر محمود، مبادرة تحمل عنوان وطني إنساني للمساعدة في تنمية قدرات الشباب وسكان المقابر، وهي مبادرة تبنتها وزارة الشباب والرياضة.
تتحدث هاجر محمود لـ DWعربية عن المبادرة قائلة "وضعت خطة مع فريق مكون من خمسة أشخاص لتنفيذ المبادرة التي تتضمن عدة محاور". أردفتهم كالتالي: " تمكين المرأة عبر إتاحة مشروعات صغيرة داخل أماكنهم وعقد ندوات تثقيفية وتدريبهم على مهن مثل الخياطة، والرعاية الصحية عبر توفير الأدوية، والتأهيل النفسي والاجتماعي". وتابعت"والتعليم من خلال برامج محو الأمية، والأنشطة الثقافية مثل إقامة معسكرات للشباب في وزارة الشباب والرياضة".
وأثناء عملها بشكل مكثف في المقابر، رأت هاجر وجود مشكلة الطبقية في تعامل الأسر مع بعضها داخل المقابر، مما يزيد من الضغوط النفسية والاجتماعية على الأسر الأقل دخلاً. وعن الصعوبات التي واجهتها، أشارت إلى "قلة أعداد المتطوعين لا سيما وانهم يشعرون بالخطر على حياتهم للتواجد في أماكن مثل المقابر، وعدم المصداقية. وفسّرت "بعض قاطني المقابر لا يصدقون أننا نساعدهم دون مقابل ويعتقدون أننا نستغلهم".
وترى محمود أنه لا يمكن تحميل الحكومة المسؤولية كاملة، فالحل ليس في توفير الشقق لهم، بل لا بد من تأهيل سكان المقابر نفسيًا واجتماعيًا للانخراط في المجتمع من جديد. وفسرت "أهالي المقابر لا يتحملون المسؤولية المجتمعية، حيث لا يدفعون فواتير كهرباء ومياه، فنقلهم إلى شقق سيحملهم مسؤولية كبيرة قد لا يكونوا على نفس المستوى". لذلك طرحت محمود فكرة تحويل الحاويات "وهي حاويات الشحن" إلى منازل بشكل يتلاءم مع الأحوال الجوية المتقلبة في مصر.
ثورة جياع قد تنطلق من المقابر
ورغم أن قاطني المقابر يعدون ضمن سكان العشوائيات، إلا أن الحكومة المصرية تحاول منذ سنوات مواجهة خطر العشوائيات عبر بناء مدن جديدة لنقلهم، ولكنها لما تتعامل مع ملف المقابر، وهو ما أدى إلى تفاقم هذه المشكلة، خاصة وأن سكان المقابر لا يدفعون أجورا مقابل خدمات المياه والكهرباء، لذلك فتكدسهم داخل المقابر، قد يهدد المجتمع، ولكن لا يبدو حتى الآن أية آفاق أو بوادر لمعالجة هذه المشكلة من قبل الحكومة.
الدكتور سمير عبدالفتاح، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة عين شمس، يرى أن المقابر هو الحصن المنيع للفقراء غير القادرين على تحمل تكلفة المعيشة الصعبة في مصر. ويرى أن الدولة تتحمل جزءا كبيرًا من المسؤولية، خاصة وأن الحكومة المصرية تفتقد الكوادر الاجتماعية المتخصصة في التحفيف عن المعاناة الإنسانية للطبقات الفقيرة من المجتمع المصري، وإعلان ارتفاع الأسعار دون دراسة تأثيراتها النفسية والاجتماعية على المواطنين. لذلك، يرى أن المبادرات المجتمعية الخاصة بمساعدة سكان المقابر غير كافية ولن تجدي نفعًا.
وأشار إلى أن تهميش وتجاهل التعامل مع مطالب سكان المقابر سيمثل قنبلة موقوتة ستنفجر في المجتمع، وقد تسبب ثورة جياع ستقضي على الاستقرار الهش في مصر. مفسّرًا "الأغنياء يعاملون الفقراء بشكل طبقي كبير، كما أن الفقراء باتوا تحت رحمة طمع التجار في مصر، لذلك ستقوم الثورة وسينتقم الفقراء من الأغنياء والحكومة التي سمحت لهم بذلك"، حسب رأيه.
ريهام مقبل ـ القاهرة