حرية التعبير في تونس على المحك، والقضاء تحت المجهر
٢٧ يونيو ٢٠١٣بعد نحو عامين ونصف عن ثورة 14 يناير/كانون الثاني ما تزال النخبة المثقفة ورجال الاعلام والفنانون يتوجسون خيفة من نزوع الحكام الجدد الى تكميم الأفواه، ليس بالعنف والبلطجة التي تمارسها بعض المليشيات الموالية للحكومة الاسلامية على الأرض فقط، ولكن أيضا عبر كل الوسائل القانونية المتاحة بما في ذلك توظيف الجهاز القضائي وهو أمر دأبت السلطة الحاكمة على انكاره لكن سير الجلسات في المحاكم وطبيعة الأحكام الصادرة توجد مبررا عمليا للمخاوف المذكورة.
واليوم مثلا يطرح فنانو الراب في تونس أسئلة مهمة بشأن مستقبل فنهم فيما بعد الثورة وما إذا كان عليهم انتقاء كلمات اغانيهم بكل دقة وعناية لتجنب الملاحقات القضائية فيما يحتاج الاعلاميون ربما الى توثيق كل اعمالهم واعلان مصادرهم لتفادي الاصطدام مع السلطة في ساحات المحاكم.
لكن الأخطر من ذلك أن الأداء القضائي في عدد من القضايا المرتبطة بحرية التعبير والأحكام الصادرة بشأنها مؤخرا أعطى انطباعا قويا بأن شروط المحاكمة العادلة والقضاء المستقل قد بات في وضع مهتز ومقلق. يعلق مراقبون بأن أغلب الاحكام يشوبها الافتقاد الى الانسجام بالمقارنة بين قضية واخرى.
وجاءت الانتقادات حتى من هيئات ديبلوماسية خارجية (ألمانيا وفرنسا) بشأن العقوبات المسلطة على ناشطات "فيمن" النسائية العالمية حيث تم الحكم عليهن بالسجن ابتدائيا 4 أشهر بعد احتجاجهن عاريات الصدر بينما تمتع المعتدون على السفارة الامريكية بحكم مخفف تمثل في السجن سنتين لكن مع تاجيل التنفيذ.
ونال فنان الراب مؤخرا علاء اليعوقوبي عقوبة السجن سنتين مع النفاذ العاجل بسبب اغنية اعتبرت مسيئة للأمن.
وتمثل قضية مدير قناة "التونسية" الخاصة سامي الفهري الموقوف منذ آب/اغسطس عام 2011 بتهم تتعلق بفساد مالي اكثر القضايا المثيرة للجدل بشأن موقف السلطة من حرية التعبير واستقلالية القضاء.
وكانت المحكمة التونسية الأعلى درجة وهي محكمة التعقيب قد حكمت في 5 أبريل/نيسان 2013 بإلغاء قرار الاتهام وبطاقة الايداع وحكمت بأن استمرار احتجازه غير قانوني. ألغت المحكمة بطاقة الايداع مرتين قبل ذلك، في 28 نوفمبر/تشرين الثاني و5 ديسمبر/كانون الأول 2012، غير أن المسؤولون رفضوا الإفراج عنه. وأحيلت الأحكام السابقة في القضية مرة أخرى إلى دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف لتعيد الدائرة النظر فيها بتركيبة مختلفة.
ودفعت القضية نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش اريك غولدستون الى حد التساؤل قائلا "ما المطلوب عمله حتى يُخلى سبيل شخص يستمر المسؤولون في تجاهل الأحكام الصادرة من أعلى محكمة في البلاد بالإفراج عنه؟ إن السلطات التونسية تُظهر لامبالاة مذهلة بأحكام القانون مع استمرارها في حبس سامي الفهري".
ويربط مراقبون اثارة الدعوى ضد الفهري بنجاح قناة "التونسية" في استقطاب اكبر نسبة مشاهدة عبر برنامج "اللوجيك السياسي"، الذي تظهر فيه دمى كاريكاتورية لشخصيات سياسية وطنية بارزة بطابع هزلي ساخر. ومن بين هذه الشخصيات الرئيس منصف المرزوقي، ورئيس الوزراء حمادي الجبالي، وراشد الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة الحاكم.
وفي لقائه مع DW عربية تحدث زهير اليحياوي عضو الرابطة التونسية للدفاع قائلا "إن الوضع الحالي في تونس يؤشر على الاتجاه نحو التضييق على الحريات. والمنطلق الأول في ذلك الدستور، فهو ليس مشروع الشعب التونسي ولكن مشروع حزب سياسي يقود السلطة وهو حزب حركة النهضة ومن يحالفها في ذلك. وإذا ما تمت المصادقة على هذا المشروع فسيكون ضربة قاصمة للشعب التونسي الذي طمح الى الكرامة والحرية وأساسا حرية التعبير".
ويقول اليحياوي بالعودة الى قضية الفهري والفنان علاء اليعقوبي "ان قضية سامي الفهري تعكس تجاوزا صارخا للقانون أما الأحكام الصادرة بحق فنان الراب علاء اليعقوبي فهي لا تعد جائرة فحسب بل غلب عليها التوظيف السياسي بحيث أدت الى إحداث توتر بين رجال الامن وفناني الراب وقد أصدرت نقابات قوات الأمن بيانا لمقاطعة فن الراب وهذه مسألة خطيرة".
ويضيف عضو الرابطة إن "هذه مؤشرات تجعلنا نتخوف من الوضع الحالي للقضاء من ان يصبح مسيسا كما كان في عهد بن علي كما تكشف لنا هذه المؤشرات عن نوايا فعلية لضرب حرية التعبير عبر تعطيل العمل بالمرسومين 115 و116 المنظمين لقطاع الاعلام". مؤكدا انه "لا يمكن تأمين انتقال ديمقراطي وبناء ديمقراطية دائمة بمصادرة حرية التعبير بل لا يمكن أصلا اجراء انتخابات نزيهة وحرة اذا لم نحترم حقوق الانسان في مفهومها الكوني الشامل".
بدورها تحدثت روضة القرافي نائبة رئيسة جمعية القضاة التونسيين لـDW عربية قائلة "إن جمعية القضاة كان لها موقف من عدم اعتماد المرسوم 115 المنظم لقطاع الاعلام وطالبنا باستبعاد فصول المجلة الجزائية عند مقاضاة الصحافيين على اعتبار ان المرسوم يوفر الحد الادنى من الحماية للصحافيين ويكرس حرية التعبير فضلا عن مناداتنا بضرورة توفر شروط المحاكمة العادلة. وقد عاينا مثلا قصورا في محاكمة فنان الراب علاء اليعقوبي حيث لم تطلع المحكمة بما يكفي من الوقت على تقارير لسان الدفاع وأصدرت الحكم وهو اجراء مخل بشروط المحاكمة العادلة".
وبشأن الاخلالات القضائية الحاصلة في محاكمة الفهري تفيد القرافي بأن "النيابة العمومية في وضعها القانوني الحالي يرأسها وزير العدل. وفي حال حصول خلل في تطبيق القانون او امتناع النيابة العامة عن تنفيذ الاحكام الصادرة عن المحاكم فإن على الوزير ان يتدخل لتصحيح الخطأ لأن النيابة العامة تخضع الى تعليماته بالقانون ولا يمكن ان يتملص من مسؤوليته بحجة ان النيابة مستقلة. هو مطالب قانونا بالتدخل لتنفيذ قرارات المحاكم في حال امتناع النيابة العامة وفي المقابل لا يجب ان يتدخل لتعطيل تنفيذ القرارات".
ولا تتفق السلطة والأحزاب المشكلة للائتلاف مع شكاوى الاعلام والمجتمع المدني من محاصرة حرية التعبير بل ان الواقع يعكس انفلاتا في هذا المجال حسب رأيها وادى في الكثير من الاحيان الى حصول تجاوزات بسبب عدم احترام الضوابط الاخلاقية والمهنية.
القضاء مستقل أم غير مستقل؟
وأوضح عبد العزيز شعبان النائب بالمجلس الوطني التأسيسي عن حركة النهضة الإسلامية لـDW عربية "الأسئلة المطروحة الآن تتعلق بما إذا كان القضاء مستقل ام غير مستقل وما إذا كان هناك تدخل من السلطة. لكن اولا المتابع لوسائل الاعلام في تونس يلاحظ دون شك حرية للتعبير المضمونة والواسعة الى حد الانفلات ما ادى الى تجاوزات أحيانا. مع ذلك لا توجد رقابة أو محاصرة للاعلام وقد تأسست مؤخرا الهيئة الوطنية المستقلة للاعلام التي ستشرف على القطاع وتتركب من شخصيات مستقلة".
وتعليقا على أداء القضاء في عدد من القضايا المرتبطة بحرية التعبير مؤخرا "لا بد من ان نحترم القضاء وما يصدر عنه من أحكام سواء في قضية فنان الراب او قضية ناشطات فيمن أو حتى القضية المتعلقة بأحداث السفارة الأمريكية. ففي القضايا الأولى صدرت الاحكام بناء على نصوص قانونية ووقائع مثبتة بأدلة ولا اعتقد ان هذا فيه مس بحرية التعبير أما بخصوص أحداث السفارة الامريكية اعتقد ان القضاء احترم شروط تطبيق النص القانوني مع ان القضية كثر حولها الكثير من التجاذب".
ويعتبر النائب ان الحديث عن تهديد لحرية التعبير فيه الكثير من التهويل وهو لا يجانب الحقيقة على الأقل فيما يتعلق بأداء القضاء مشيرا الى أن التشدد او المرونة أحيانا في تطبيق القانون يعود إلى السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي ومؤكدا "ان مبدأ التقاضي على درجتين يسمح باستئناف الاحكام والذهاب الى مرحلة التعقيب كما ان لا ننسى اليوم ان أداء القضاء أصبح خاضعا الى التقييم والمراقبة والمتابعة من قبل المجتمع المدني".
لكن على الرغم من ضمانات التقاضي على درجتين ورقابة المجتمع المدني إلا ان المخاوف من حصول انتكاسة مجددة لدور السلطة القضائية لا تزال قائمة حتى داخل الوسط القضائي نفسه.
وتلاحظ عضوة جمعية القضاة روضة القرافي لـDW عربية قائلة "ان السياسيين بعد الثورة لم يبادروا بدفع الاصلاحات التشريعية التي تكرس حرية التعبير من ذلك ان القضاء لا يزال غير متمتع بضمانات استقلاليته وأهمها الترقيات والنقل ضد تعسف السلطة التنفيذية والتي مازالت عمليا تدير المحاكم والشأن القضائي عبر عدة مداخل وتتحكم في الحياة المهنية للقضاة كما هناك صعوبة في الوصول الى توافقات في باب السلطة القضائية بالدستور التونسي ما يفيد ان هناك تخوف من الوصول الى ضمان كامل لاستقلالية القضاء ".
لكن تستدرك القرافي في حديثها بأنه رغم المخاوف والتضييقات فإنه تلقي على عاتق القاضي مسؤولية شخصية لحماية الحريات العامة والتصدي لتجاوز السلطة السياسية والتنفيذية ومخاطر تغولها. ومثلما يحصل في الدول الديمقراطية تخضع اليوم الاحكام القضائية وخاصة تلك المتعلقة بالحريات الى التقييم وهي محور نقاش من قبل الرأي العام وهذا يسمح للجهاز القضائي بأن يصلح نفسه ويتجاوز النقائص ومواطن الخلل.