راؤول ولنبرغ – الدبلوماسي الذي أنقذ حياة الآلاف من المحرقة
٣ أغسطس ٢٠١٢
بودابست عام 1944: بينما كان الحلفاء يقومون بإنزالهم على شواطئ النورماندي، والجيش الأحمر يستعيد مناطق سوفياتية، كانت المجر محتلة من قبل الجيش الألماني. بإصرار ووحشية يواصل القائد العسكري أدولف آيشمان إبعاد اليهود المجريين. حتى الآن جرى قتل 437 ألفا من الأطفال والنساء والرجال، حينها وصل راؤول ولنبرغ إلى بودابست.
ليس سياسيا محترفا
ولد راؤول ولنبرغ، في الرابع من أغسطس/ آب عام 1912. وكابن لعائلة سويدية دبلوماسية شهيرة، كان مخططا أن يعمل راؤول كصراف، ولكن لم تكن لديه لا الرغبة ولا الموهبة لهذه المهنة. فدرس بدلا من ذلك الهندسة المعمارية في الولايات المتحدة. ثم قطع دراسته وانخرط، خلال الحرب العالمية الثانية في السويد، في مجال تجارة الأطعمة، وحقق نجاحا كبيرا، وذلك بفضل خبرة شريكه الهنغاري كالمان لاور. ولكن هذا الأخير كان اهتمامه منصبا على توفير العون لأقاربه اليهود الموجودين في وطنه.
في غضون ذلك حصل ولنبرغ على مهمة سرية من الحكومة السويدية: تم دعمه بمائة وخمسين ألف دولار من اللجنة الأمريكية للاجئي الحرب، وأوكلت إلى الشاب ذي الاثنين وثلاثين عاما مهمة إنقاذ ما تبقى من يهود. "لم يكن راؤول ولنبرغ سياسيا محترفا من الناحية المهنية"، كما يقول الصحافي والمؤرخ الألماني أولريش فويلكلاين، ولكن كان "شابا قرر أن ينذر نفسه لخدمة الإنسانية".
شندلر السويدي
وكملحق للبعثة السويدية تمتع ولنبرغ بالحصانة الدبلوماسية. وعرف كيف يستخدمها: قام بشراء مبان، وخصصها كملاجئ إنقاذ تحت العلم السويدي. قام برشوة المسؤولين، وعندما كان يصادفه من لايريد المساعدة، كان يغريه بقروض بالملايين، أو يهدده بعواقب سياسية في حال رفضه. ثم وضع السويدي الشاب نظام ما يسمى بجوازات سفر وقائية أو رسائل للحماية، تم بموجبها وضع اليهود المجريين على أنهم من رعايا دول محايدة. وهذا ما أنقذ بضعة آلاف من اليهود من أن تصل إليهم قوات الأمن الخاصة النازية والغستابو (الشرطة السرية النازية). "لقد عمل راؤول ولنبرغ على جميع المستويات"، كما يقول المؤرخ فويلكلاين. "لقد كانت لديه اتصالات بقادة قوات الأمن الخاصة، وتفاوض مع آيشمان. لقد تحدث مع ممثلي السياسية الألمانية في بودابست، ومارس ضغوطا عليهم".
وقام ولنبرغ بتكوين شبكة صغيرة من المخبرين، الذين ينقلون له مواعيد نقل المعتقلين إلى معسكرات الإبادة. وقام بنفسه بإيقاف القطارات الذاهبة إلى معسكر الاعتقال في آوشفيتس، فأنقذ بذلك اليهود من مسيرات الموت، وأعاق تنفيذ أوامر الرمي بالرصاص التي أصدرها حزب الصليب السهمي، كما كان القوميون (النازيون) المجريون يسمون أنفسهم. لم يكن ولنبرغ دبلوماسيا استثنائيا فقط، بل كان رجلا ذا شجاعة استثنائية، أبهرت حتى رجال القوات الخاصة النازية.
الموت في موسكو
عندما احتلت القوات السوفياتية بودابست أخيرا، وجدت حوالي مائة ألف يهودي على قيد الحياة. وفي 16 يناير/ كانون الثاني عام 1945 علمت الحكومة السويدية بأن ولنبرغ تم وضعه تحت حماية الاتحاد السوفياتي. "أنا لا أعرف إن كنت سجينكم أم ضيفكم"، قالها ولنبرغ ذات مرة مازحا، عندما شوهد آخر مرة على قيد الحياة في الغرب. ثم اختفى أثره.
في البداية عملت موسكو على نشر نبإ اغتياله على يد الفاشيين المجريين. ولكن، في الواقع، ألقي القبض عليه واقتيد إلى العاصمة السوفياتية. التهمة: التجسس لصالح الولايات المتحدة والتعاون مع كبار القادة النازيين. "هذا ما تم التوصل إليه من خلال المقابلات التي أجريت مع ضباط تحقيق سابقين ممن حاولوا تجنيد ولنبرغ، على الأقل، كمخبر"، يوضح أولريش فويلكلاين، والذي بحث في الأرشيف الروسي عن شهود عيان، عاصروا تلك المرحلة، للحصول على معلومات حول مصير ولنبرغ.
جدل بين المؤرخين
ولكن هناك مؤرخون آخرون يتبنون بالمقابل نظرية تقول: ليس النشاط المزعوم لولنبرغ في التجسس هو من أوصله إلى الإعدام، وإنما العلاقة الأسرية مع واحدة من أكبر الشركات في السويد، والتي عملت خلال الحرب مع كلي الجانبين. ووفقا لهذه الافتراضات فقد كان ولنبرغ بمثابة رهينة من السوفيات للتفاوض مع السويد ومع مجموعة ولنبرغ التجارية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد فشلت الحكومة السويدية في التدخل في الوقت المناسب من أجل المفقود ولنبرغ.
في 7 فبراير/ شباط عام 1957، أبلغ السوفيات الحكومة السويدية رسميا، بأن ولنبرغ توفي في عام 1947 نتيجة قصور في القلب – في مستشفى لوبيانكا، وهو السجن سيئ السمعة لجهاز المخابرات السوفياتي. ولكن الاتحاد السوفياتي لم يقدم الدليل على ذلك. وفي عام 1989 سلمت الحكومة الروسية لأقارب ولنبرغ آخر ماتبقى من أمتعته الشخصية، بما في ذلك جواز سفره، والتقويم الخاص به، وعلبة السجائر. وفي عام 2001 أعلن ألكسندر ياكوفليف، رئيس لجنة إعادة التأهيل التابعة للرئاسة الروسية، أن ولنبرغ قضى نحبه رميا بالرصاص.
الشيء الوحيد المؤكد هو أن السويدي لم يمت لأسباب طبيعية ولكن تم قتله. حتى الآن ما زالت بعض الوثائق في سجلات الأرشيف الروسية غير متاحة للجمهور. هذه الوثائق فقط يمكن أن توفر معلومات حول المدة التي عاشها ولنبرغ وتاريخ وفاته، ومن قتله.
ميراث ولنبرغ
اليوم هناك العديد من الكتب والأفلام والبرامج الوثائقية، والأغاني الشعبية وحتى أعمال الأوبرا التي ألفت حول ولنبرغ. وتقديرا لأعمال الإنقاذ التي أداها، تم تكريم ولنبرغ من قبل الملك غوستاف أدولف بأرفع وسام سويدي، وفي النصب التذكاري للمحرقة النازية في "ياد فاشيم" تم تكريمه باعتباره "صالح بين الشعوب". وفي عام 1995 مُنح ولنبرغ، الجائزة الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي الكنيس الكبير في بودابست توجد لوحة تذكارية تكريما للدبلوماسي السويدي الشجاع.
ماريك ميشائيل/ فلاح آل ياس
مراجعة: منصف السليمي