رسالة شعرية عربية-يهودية من العصر الذهبي
يطلق إسم الأندلس على حقبة الحضور الإسلامي فوق أرض شبه الجزيرة الإيبيرية. فترة تمتد على مدى ما يقارب الألف سنة، أو بشكل أدق من سنة 711 م إلى سنة 1614 قد تجسدت خلالها، وبالرغم من التحولات التي عرفتها القرون المتلاحقة، صورة للتعايش السلمي المتواصل بين الثقافات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وكانت بموجب ذلك جديرة بإسم "العصر الذهبي" الذي لقبت به.
إنجاز أدبي عربي ويهودي
إنها إحدى مزايا هذه الأنطولوجيا، أن انتشلت من غمرة النسيان هذه الذخيرة الثرية من الأشعار التي نشأت في الأندلس. وإن هذا وحده يعد أكثر من مجرد إنجاز في مجال التاريخ الأدبي، ففي هذه الأنطولوجيا يكشف بوسونغ عن العلاقات الداخلية لتلك الحقبة الشعرية الثرية، مبرزا بذلك إلى أي مدى تمكنت الحركة الشعرية العربية واليهودية داخل المحيط الأندلسي من الاستفادة من بعضهما وما عرفتاه من تأثير وإثراء متبادلين، وكيف تمكنتا معا بالنهاية من تمهيد الطريق على نحو حاسم لتطور الشعر الأوروبي لفترتي أواخر العصر الوسيط والعصر الحديث.
لقد كان بإمكان الفن الشعري الأندلسي أن ينهض بهذه المهمة لأنه نابع من أفق حضاري مشترك، كما يثبت ذلك غيورغ بوسونغ. وقد تطرقت مقدمة هذه الأنطولوجيا بطريقة مفصلة وواضحة إلى الشروط التي احتضنت نشأة هذا الشعر.
إن المميز في هذه التجربة الشعرية هو ارتباطها المتين بتقاليد الموروث الشعري العربي القديم ومدى انضباطها اللغوي.
ولئن بدت هذه الأسس التي تبنى عليها غريبة بالنسبة للقارئ الأوروبي الحديث من الوهلة الأولى، فإنها تمنح للقراءة المتأنية العميقة مظهرا ثالثا الذي يجعلها تتمكن من مد جسور ارتباط مع الكتابة الأدبية الحديثة ومابعد الحديثة: إنه عنصر التناص الذي يميز الشعر الأندلسي على نحو خاص.
فقد ظل الشعراء الأندلسيون على مر العصور يستندون إلى أعمال من التراث الشعري العربي القديم، يستلهمون أغراضها ويعملون على تنويعها وتحويرها، ويوسعون بذلك من حقل الإمكانيات الابداعية للشعر عموما.
ابن خلدون وولادة
هذه المختارات التي تشمل 33 شاعرا وشاعرة تقدم للقارئ عرضا جليا ومتنوعا، وهي بذلك لا تعرض فقط صورة عن التنوع الذي يميز هذا الشعر، بل تعطي أيضا فكرة عن الأهمية التي ظل يحظى بها دوما في البلاد العربية، والتي يفترض أن تكون له في ما وراء الفضاء العربي أيضا.
ينشد مثلا يوسف بن هارون الرمادي في القرن الحادي عشر: "تعال يا مسيح! فالقلوب متآلفة وإن اختلفت الديانات". وإلى جانب القصائد ذات الرسالة (المعرفية) تتواجد أشعار تتغني بمحاسن الطبيعة وقصائد الغزل والبوح الصريح بالحب كما يتجلى في المساجلات الشعرية بين ابن زيدون والأميرة ولادة بنت المستكفي، أو، وبشكل أكثر قوة بين أبي جعفر بن سعيد وحفصة بنت الحاج الركونية.
وقد ضمت هذه الأنطولوجيا من بين ما ضمت بين دفتيها ابن زيدون والملك المعتمد بن عباد وابن قزمان والصوفي الكبير محي الدين ابن عربي، إلى جانب شولومو بن غابيرول وموشي بن عزرا ويهودا هاليفي من الجانب العبراني.
هذه الترجمة التي قدمها غيورغ بوسونغ، والتي تتميز بسهولة القراءة مع بقائها وفية للنصوص، والمرفوقة بتعليقات ذات فائدة كبيرة تقدم ملخصا شعريا شاملا يتجاور فيه الحب مع الفناء. ويضع هذا العرض المتنوع القصائد التي يحتوي عليها موضعا تتنزل بموجبه في صميم الكتابة الشعرية لكل الأزمنة. لكن هذا الالتزام الجدي والصرامة التي تم بها تنضيد الموضوعات والأغراض تمضي إلى أفق يتجاوز ما تعود عليه القارئ الأوروبي.
"يا أهل أندلس لله درّكم
ماء وظل وأزهار وأشجار.
ما جنّة الخلد إلا في دياركم،
ولو تخيّرت هذا كنت أختار.
لا تخشوا بعد ذا أن تدخلوا سَقَرا
فليس تُدخل بعد الجنة النارُ."
هكذا ينشد ابن خفاجة (1058-1139)، أن كتابة شعرية لمجتمع تتعايش فيها مختلف الثقافات تقي الإنسان من عذاب الجحيم، فتلك إحدى الدروس العميقة التي تعلمنا إياه "أعجوبة الأندلس"، نحن أهل هذا الزمن.
بقلم كريستوف لايستن
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2005
صدرت الأنطولوجيا في دار نشر بيك في ميونيخ