رشا حلوة: العراقيات يتحدين السلطة والذكورية في المظاهرات
٨ نوفمبر ٢٠١٩وأنا أكتب هذا المقال، تواصلت مع شهد، امرأة عراقية تسكن في دمشق. أردت بداية أن أشاركها بموضوع مقالي، لأحصل على إفادة منها، وبأن أتواصل من خلالها أيضاً مع نساء عراقيات في بغداد، يتظاهرن في شوارع العاصمة العراقية منذ أيام، ونسمع أصواتهن من بعيد.
لكن، الإنترنت قُطع عن العراق منذ أيام، هكذا بدأنا أنا وشهد محدثتنا، وبالتالي، من المستحيل الوصول إلى أحد في الشوارع هناك… الإنترنت الذي قُطع عن المتظاهرين والمتظاهرات، هو أداء مشابه ومتكرر تستخدمه الحكومات للقمع، تماماً كما حدث في ثورات عربية سابقة، وكما يحدث اليوم في العراق.
مع بداية التظاهرات في العراق، لم يكن حضور النساء قوياً مقارنة بالرجال، وهذا مفهوم في سياق محافظ لمجتمعات تعيش في ظل منظومة ذكورية وأبوية، والتي احتكرت الفضاءات العامّة/ الشوارع، سواء اجتماعياً و/أو بدعم السلطات. إلا أن العراقيات، كسرن هذا الحاجز، وفرضن أنفسهن على ساحة التحرير والشوارع العراقية، في بغداد وخارجها، امتداداً لكسر العراقيين لحواجز خوف عديدة.
تقول شهد في حديثها عن صديقاتها الموجودات في العراق: "عندي صديقات على فيسبوك يروحون على(ميدان) التحرير، يشاركن بالمبادرات الفنية والطبخ والإسعاف، حسب اللي شفته"، وتتابع: "في منهم يخافن من أهلهن أكثر من مكافحة الشغب… الموضوع تداول كنكتة، بس نلاقي فتاة مستعدة تروح للمظاهرة، بس رعبها الحقيقي هو إذا أهلها عرفوا".
جانب إخفاء بعض العراقيات حقيقة نزولهن إلى المظاهرات، هي ليست "نكتة" تماماً، فكثير منهن فعلن ذلك، لم يردعهن الخوف من عائلاتهن أو حتّى أزواجهن من المشاركة ورفع أصواتهن، حتى لو سراً، ضد فساد وقمع الحكومة العراقية. وتحدين القواعد المجتمعية الذكورية بكافة أشكالها، حتّى تلك التي ترفض مساحات مشتركة للنساء والرجال سوية. مما تشكّل مشاركتهن في المظاهرات، ليس احتجاجاً فقط على السلطة السياسية، إنما على عادات وتقاليد مجتمعية أبوية.
خلال الأيام الماضية، شاركت بعض صفحات العراقيات دعوة للنساء بأن ينزلن إلى الشوارع اليوم الجمعة، في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري. الدعوة كانت بسيطة، تحمل تصميم غرافيكي لمجموعة من وجوه النساء، كُتب عليها: "نازلة آخذ حقي"، مع الإشارة إلى موعد التظاهرة ومكان إقامتها: ساحة التحرير.
تواصل الصور ومقاطع الفيديو، الآتية من العراق، مفاجأتنا إيجابياً بالتأكيد. في الوقت الذي يتم تهميش العراق وأهله تماماً عن العالم، سواء المنطقة العربية أو العالم ككل. في ظل تعميم إعلامي رسمي عراقي، وجد العراقيون، رجالاً ونساء، طرقهم الإبداعية لإيصال أصواتهم. من رسومات غرافيتي على الجدران، تحمل رسائلاً عديدة إلى العراقيين، أينما كانوا، وإلى العالم، منها التي أفادت بأن هذه التظاهرات هي عبارة عن استعادة الوطن بالنسبة لكثير منهم.
تجسّد الإبداع أيضاً باستخدام أغنية "بيلا تشاو" الإيطالية الشهيرة، والتي تبنّاها الثوار الإيطاليون ضد القوات النازية التي كانت تحتل إيطاليا، كنشيد مقاوم للنازية والفاشية ومعبراً عن رغبة الإيطاليين بالحرية والكرامة. فقررت مجموعة عراقية تحمل الاسم "كروب ما بعد الظلام المسرحي" استخدام اللحن وتركيب كلمات تحكي الواقع العراقي اليوم، ومطالب العراقيين في ثورتهم. بالإضافة إلى المزيد من المظاهر الإبداعية التي ميّزت احتجاجاتهم.
و بالعودة إلى الحضور النسائي في المظاهرات، وإلى ما قدّمه العراقيون من كسر للتابوهات، فخلال المظاهرات، انتشرت صورة لحبيبين صورا أنفسها وهما يقبلان بعضهما البعض "قبلة فرنسية" أثناء ارتدائهما لقناع يحميهما من قنابل الغاز التي تُضرب على المتظاهرين. الصورة التي انتشرت كثيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حصلت على انتقادات كثيرة، لكن، قرار التقاط الصورة من الحبيبين ونشرها، هي بمثابة "مانيفستو" يضرب "بعرض الحائط" كل التابوهات، السياسية والاجتماعية، مع التخمين أو اليقين أن المرأة فيها كانت عرضة أكبر للهجوم.
منذ نزولهن إلى الشوارع، ترفض العراقيات الصمت، ويرفضن أيضاً كل المحاولات لإسكاتهن، في ظل تهميشهن المستمر سياسياً واجتماعياً. محاولات إسكاتهن و"إعادتهن" إلى البيوت تجسّدت في "حملات" تحريضية ضدهن، بالإضافة إلى حملة إشاعات ملفقّة هدفت إلى المسّ بهن، تنوّعت بين إشاعات سياسية أو متعلقة بحيواتهن الشخصية. وهنالك من أرغمن على التوقف عن نشاطهن، حتى لو مؤقتاً، بعد تعرضهن للتهديدات.
هذه الإشاعات والحملات، لا تختلف في جوهرها عن الحملات التي قامت بها السلطات السياسية ضد المتظاهرات النساء في مصر وتونس وسوريا السودان وغيرها من البلاد، لترهيبهن ولفرض سلطة عليهن تُنفذ من قبل عائلاتهن أو أقاربهن أو السلطات الرسمية، بهدف كسر عزائمهن.
استمراراً لحديثي مع شهد، وفي تعليقها على الحضور النسائي في المظاهرات العراقية، قالت: "بصراحة تفاجأت من الحضور الكبير، خاصّة في ظلّ أداءات المجتمع العراقي تجاه المرأة"، وتتابع: "فخورة لأنني أعيش أياما أرى فيها حقيقة عندما تريد النساء العراقيات تحقيق شيئ ما، سيفعلن ذلك، رغم كل محاولات التشهير والتهديد الذي طال ما يُسمى بشرفهن… فكل فتاة خرجت إلى الشارع، شجّعت فتاة أخرى على الخروج أيضاً". وتختم شهد: "أشعر أن ما يحصل اليوم في مظاهرات العراق، سوف يؤثر على مستقبل المرأة العراقية في كل مكان، لأنها جربت صوتها وعرفت قوته".
من هنا، نعرف أن النساء، القادرات في ظروفهن الخاصّة جداً أن يتحدين ذلك، يجدن الطرق لتحقيق ما يشأنه، علناً أو سراً. فلم تقتصر مشاركة النساء في المظاهرات فقط على الحضور، بل أقمن مبادرات عديدة تدعم التظاهرات والمتظاهرين/ات. فقامت مجموعة من النساء بتجميع التبرعات، توفير الطعام والمياه، كما الأدوية والإسعاف للجرحى والتبرع بالدم. وأخريات عملن على حملات تنظيف وشراء كمامات والملابس والأغطية، وغيرها من وسائل الدعم، وكذلك المعنوية منها.
النساء العراقيات اليوم، كما النساء اللبنانيات أيضاً، والنساء في البلاد التي تعمّ بالمظاهرات المطالبة بالحقوق الإنسانية والكرامة، يشعرن بأنهن يستعدن أوطانهن، وبأن البلاد التي يرغبن العيش فيها، هي التي تعيش فيها النساء بكرامة وحرية، فيناضلنَ من أجلها… وأن الطريق إلى هناك، لربما ليس مستحيلاً.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.