زيلينسكي.. الرئيس الذي قلل بوتين من شأنه وفاجأ الجميع بصموده
٢٦ فبراير ٢٠٢٣لم يشتهر رئيس أوكراني كما اشتهر فولوديمير زيلينسكي، ففي كل يوم تقريباً، يتصدر أخبار الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ حطم الأرقام القياسية في عدد الفيديوهات الذي يسجله من مكتبه أو من أماكن أخرى في كييف وأوكرانيا للحديث عن آخر تطوّرات الحرب، لكن المتتبع لمساره يتأكد من تغيّر كبير في نهجه ونهج بلاده في التعامل مع الأحداث منذ بداية الغزو.
صمود بدل الهرب
عندما اقترب الجيش الروسي من العاصمة كييف، ظن الكثيرون أن زيلينكسي سوف يغادر خصوصاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان دوما ما يتوقع هذا الأمر. تقارير متعددة تحدثت بالفعل عن أن الغرب اقترح على زيلينكسي مكاناً للعيش في حال وصل الروس إلى كييف، لكن زيلينكسي رفض المغادرة وبقي رفقة حكومته في العاصمة.
ساعات قبل إعلان الغزو، وتحديداً يوم 23 فبراير/شباط 2022، نشر زيلينكسي شريط فيديو موجه إلى الشعب الأوكراني وكذلك إلى الشعب الروسي، حيث طالب بتجنب الحرب، وطلب من الروس - تحدث باللغة الروسية- التظاهر في الشوارع ضد خطوة الغزو، محذراً أنه إذا ما تعرضت بلاده للهجوم فسيقوم الأوكرانيون بالدفاع عن أنفسهم.
"إذا هاجمتم أوكرانيا (يقصد الجيش الروسي)، فسنقوم بمواجهتكم، ولن نعود إلى الوراء"، يقول زيلينسكي في ذلك الخطاب الذي كان آخر مرة يظهر فيها وهو حليق الوجه ويرتدي بذلة رسمية.
وعوض البحث عن مكان للهرب، طالب زيلينكسي الغرب بتوفير السلاح، رغم أن تقارير الاستخبارات الغربية كانت تتوقع سقوط العاصمة كييف. سحبت دول غربية مسبقا موظفيها من سفاراتها، ورد حينها زيلينكسي على هذه الخطوات بغضب مشيرا إلى أنها تعبير عن عدم الثقة، ما ظهر أنها محاولة منه لمنع انتشار الذعر.
من البذلة إلى زيّ العسكر
انتقل زيلينكسي من اللباس الرسمي إلى اللباس العسكري الخفيف، سواء كقميص بلون أخضر زيتي، أو معطف باللون ذاته، أو لباس صوفي أسود خفيف، ولم يعد لارتداء البذلة أبداً طوال مدة الحرب حتى وهو يزور عدة بلدان أو يستقبل عدة مسؤولين غربيين أو يجري حوارات صحفية، ما جعل صوره بالبذلة الرسمية تظهر قديمة للغاية.
خلال اليوم الثاني للغزو، صوّر زيلينكسي ما يعتبر أشهر فيديوهاته، وهو خارج المسكن الرئاسي في العاصمة كييف ليلاً، ليعبر عن أنه لن يغادر بلاده وأنه مستعد للقتال والمواجهة.
اشتدت لهجته تجاه روسيا مع مرور الأيام، فبعدما كان منفتحا على القيام بتنازلات ومن ذلك العدول على تقديم طلب للانضمام إلى الناتو، صار يتحداها بشكل كبير ويتهمها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بعدما تأكد أن الأوكرانيين يقفون إلى جانبه.
قام زيلينكسي بزيارة خطوط القتال الأمامية حتى تلك التي تشهد معارك ضارية، كما حرص على زيارة المدن المستعادة من الجيش الروسي، مركزا على إبراز مشاهد الدمار لمزيد من كسب التأييد، لترتفع شعبيته بشكل كبير واقتربت حاليا في أوكرانيا من نسبة 90 بالمئة.
نشأ زيلينسكي في كريفي ريه، وهي مدينة صناعية للطبقة العاملة في جنوب شرق أوكرانيا. والده أستاذ جامعي، ومع ذلك، واجه جيله سنوات قاسية خلال آخر فترات الاتحاد السوفياتي. الظروف الصعبة حينها صقلت شخصية زيلينسكي، وهو ما ظهر خلال الغزو الروسي.
من التمثيل إلى قيادة بلد
وصل زيلينكسي إلى الرئاسة من مجال الفن والتمثيل، إذ لم يهتم بالسياسة إلا في السنوات العشر الأخيرة. تعرّف عليه الأوكرانيون في عدة أعمال تلفزيونية، منها المسلسل الكوميدي "خادم الشعب" الذي أدى فيه دور مدرس تحول بالصدفة إلى رئيس البلاد. عُرض المسلسل عام 2015، وبعدها بأربع سنوات تقريباً، انتخب الأوكرانيون زيلينكسي رئيسا للبلاد بعد تأسيس حزب باسم نفس المسلسل الكوميدي.
لكن الرجل قدّم بعد الغزو الروسي صورة مغايرة تماماً سواء لمساره السابق كممثل أو لفترة حكمه خلال الثلاثة أعوام الأولى من ترؤسه للبلاد، بعدما واجه آلة الحرب الروسية بكثير من الإصرار. لكن أكثر ما ركز عليه زيلينكسي هو التواصل، مستفيدا من خبراته مع الكاميرا، وتحولت هذه الأخيرة إلى أهم سلاح بيده، حيث برع في اختيار الكلمات التي يخاطب بها الأوكرانيين والعالم.
ولم يتوقف زيلينكسي في استخدام الكاميرا لمخاطبة رؤساء الدول والشعب الأوكراني، بل كان حاضرا حتى في ملتقيات فنية وثقافية، ومن ذلك كلمته في مهرجان البرليناليه في برلين قبل أيام، كما كان حاضرا في عدة برلمانات عبر العالم، فضلا عن إجرائه حوارات مع وسائل إعلام مرموقة.
كيف قلّل بوتين من شأن زيلينكسي؟
لم يأخذ بوتين قبل الغزو نظيره الأوكراني على محمل الجد، إذ كان يعتقد قبل الحرب أنه محدود التأثير وأنه مجرّد رئيس مدعوم من الغرب رغم انتخابه بشكل ديمقراطي، معتقداً أنه سيتغلب عليه بشكل سهل.
لكن التقليل الروسي من شأن زيلينكسي يعود إلى ما قبل الغزو، وتحديدا منذ الحملات الانتخابية في رئاسيات أوكرانيا، عندما شكّل انتخابه مفاجأة كبيرة، إذ لم يعرف سابقا أن ممثلا كوميديا سينتخب رئيس دولة، خصوصا مثل أوكرانيا التي عاشت، قبل الغزو الروسي، على توتر كبير مع موسكو بسبب عدة ملفات منها احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا.
هناك عامل آخر وراء الخطأ الروسي في التقليل من شأن زيلينكسي. لما كان هذا الأخير ممثلاً، كان يؤدي أدواره الكوميدية باللغتين الأوكرانية والروسية. ولم يكن في بداياته مناوئاً لروسيا بالطريقة الحالية، بل سبق له أن قدم عرضاً مسرحياً أمام الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، الذي كان يزور أوكرانيا.
وهناك من اعتبر أنه لم يكن معارضاً للرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي كان موالياً لموسكو، بل أقام زيلينكسي علاقات مع موسكو وقددم عدداً من عروضه هناك حتى بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، ما أدى إلى انتقاده من طرف العديد من أوكرانيين.
لكن الغزو الروسي لأوكرانيا غيّر كل شيء. رفض زيلينكسي الاستسلام أو الهرب، وصمد في الحرب حتى حقق جيشه خلالها العديد من الانتصارات وعرقل تقدم الروس في عدة مناطق رغم سيطرة هؤلاء على بعض منها، ما دفع بوتين إلى استدعاء المزيد من الجنود والاستنجاد بالمرتزقة، وجعل منتقدي زيلينكسي داخل أوكرانيا يصمتون.
أخطاء في إدارته
لكن لم تكن طريقة تدبير زيلينسكي للحرب مثالية تماما، وقعت حكومته في العديد من الأخطاء، ما دفع بعدد من المسؤولين الكبار إلى تقديم استقالاتهم. كما ارتكب أخطاءً في المعلومات التي ينشرها، ومن ذلك زعمه أن صواريخ روسية سقطت في بولندا، حيث قُتل شخصان، ما أدى إلى ضجة كبيرة بما أن بولندا عضو في الناتو، واعتداء روسيا عليها يعني الاعتداء على الناتو، لكن تبين لاحقا أن الصواريخ هي أوكرانية سقطت بالخطأ في قرية بولندية.
لكن هذه المزاعم الخاطئة لم تقود إلى تسميم علاقة زيلينسكي بالغرب، بل استمر الأخير في حشد الدعم له، مستفيداً من قدراته التواصلية، التي تصل أحيانا حتى التوسل . واستطاع مؤخراً جلب مساعدات عسكرية كبيرة من الغرب رغم تردد هذا الأخير في إرسال الأسلحة المتطورة إلى أوكرانيا تخوّفا من اتساع رقعة الحرب، بل إن بايدن زار أوكرانيا في ذكرى الغزو، معلناً عن دعم عسكري جديد، كما أدى الضغط الأوكراني على ألمانيا إلى إرسالها أسلحة متطورة.
رومان غونشارينكو/إسماعيل عزام