سيناريوهات ما بعد الإنتخابات الألمانية وتحديات الواقع السياسي
على الرغم من تباين الآراء حول تأثير استطلاعات الرأي العام على توجهات الناخبين وقراراتهم الإنتخابية، إلا أن هذه الاستطلاعات تستحوذ في "ديمقراطية الإعلام" على حيز كبير من اهتمام الناخبين وقادة الأحزاب السياسية خلال الحملات الإنتخابية، وهو ما يعود في الواقع إلى أنها تعطي إشارات إلى الفرضيات الممكنة لإجراء تحالفات بين الأحزاب السياسية من أجل تكوين حكومة بين الأحزاب السياسية بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات. فالسياسة الإصلاحية التي يطبقها التحالف الحكومي الحالي (التحالف الأحمر الأخضر) المكون من الحزب الإشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، الذي يحكم ألمانيا منذ 7 سنوات لا تحظى بثقة الناخبين الألمان منذ أكثر من سنتين، وذلك على الرغم من إجماع غالبية الناخبين الألمان على ضرورة الإصلاح الجذري لهيكلة الاقتصاد الألماني من أجل التعاطي الإيجابي مع إستحقاقات عصر العولمة ومعالجة الضعف البنيوي الذي يعاني منه ثالث أكبر إقتصاد في العالم.
سخط الناخبين وغياب البديل السياسي
المفارقة الكبرى التي ترافق الحملة الإنتخابية تتجلى في تشديد المستشار شرودر على أنه "يريد الحصول من الناخبين على تفويض جديد لحكومته لكي يستطيع مواصلة إصلاحاته الاجتماعية غير المحبوبة شعبياً"، في الوقت الذي تؤيد أحزاب المعارضة المحافظة سياسته الإصلاحية بصورة مبدئية. وعلى الرغم من غياب البديل السياسي المقنع لا تزال هذه الأحزاب تتقدم على الحزب الاشتراكي الديمقراطي في استطلاعات الرأي قبل عدة أيام من إجراء الانتخابات. ولكن هذه الاستطلاعات تشير في السياق نفسه إلى أن حوالي ثلث الناخبين لم يحسموا أمرهم بعد. ومع أن التحسن الأخير الذي شهدته نتائج الحزب الاشتراكي الديمقراطي والعائد في أغلب الظن إلى قوة حجج شرودر وفريقه الانتخابي، وخاصة عندما يدور الحديث في الحملة الانتخابية عن أنظمة الضمان الاجتماعي وعن السياسة الألمانية الخارجية التي يؤيدها غالبية الناخبين الألمان الرافضين لـ"عسكرة" السياسية الألمانية والدولية، إلا أنه من المستبعد جداً أن ينجح في الحفاظ على مقاعده البرلمانية والفوز بتفويض جديد لمواصلة عمل "التحالف الأحمر الأخضر".
سيناريوهات ما بعد الانتخابات الألمانية
الأرقام الجديدة التي قدمتها معاهد استطلاعات الرأي في الأيام القليلة الماضية تشير إلى انخفاض في شعبية الحزبين المعارضين الاتحاد المسيحي الديمقراطي وحليفه التقليدي الليبرالي الحر مما يقلل من إحتمال تكوين تحالف حكومي بينهما، ويصب في خانة فرضية التحالف الحكومي بين الحزبين الكبيرين في ألمانيا. وفي هذا السياق يشير المراقبون السياسيون، ومعهم غالبية الناخبين الألمان، إلى تجربة العمل السياسي لأول حكومة إئتلاف كبير حكمت ألمانيا في فترة حرجة حيث بدأت عملها في عام 1966 تحت قيادة المستشار كورت غيورغ كيسنغر (الحزب المسيحي الديمقراطي) ونائبه فيللي براند (الحزب الإشتراكي الديمقراطي) الذي تبوء في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية. وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ جمهورية ألمانيا الإتحادية حديثة النشأة (ألمانيا الغربية سابقاً) نجح هذا التحالف الحكومي في القضاء على البطالة، لأنه خلق أكثر من 000 720 فرصة عمل جديدة. هذا النجاح الكبير دفع الناخبين الألمان إلى الإيمان بهذه الإسطورة ورؤيتها كمثال يحتذى به، وذلك على الرغم من الشكوك التي روادت أب المعجزة الاقتصادية الألمانية ورائد اقتصاد السوق الاجتماعي لودفيغ إيرهارد تجاه سياسة التحالف الكبير الإقتصادية التي ارتكزت على إنعاش الاقتصاد عن طريق تمويل فرص عمل مصطنعة كلفت دافعي الضرائب مئات المليارات.
التحالف الحكومي الكبير وإصلاح سوق العمل
المراقبون السياسيون وخبراء الاقتصاد يعتبرون السياسة الإقتصادية لحكومة التحالف الكبير نقطة انقلاب في مفهوم السياسية الإقتصادية الألمانية لا تزال تلقي بظلالها على آليات عمل الأحزاب الألمانية حتى الوقت الحاضر. فالتحول من سياسية إقتصادية توفر البنية التحتية للإستثمار المجدي وللعمل الحر إلى سياسة تستخدم آليات عمل الإقتصاد الموجه كان بمثابة بداية الوقوع في فخ الديون والابتعاد عن المنطق التنافسي للرأسمالية، وهو ما أدى إلى تغيير جذري في بنية الاقتصاد الألماني أفقده الكثير من ديناميكيته وقدرته التنافسية. ووفقاً لآراء المراقبين فإن سخرية القدر تكمن في أن هذا التحالف هو الوحيد القادر على تفنيد "أسطورته" ومواجهة التحديات الكبرى المتمثلة في تطبيق تعديلات إصلاحية جذرية في هيكلة الإقتصاد الألماني.
غموض حول مستقبل شرودر
ومع أن العد التنازلي للانتخابات الألمانية بدأ قبل أسبوع، إلا أن الغموض لا يزال يكتنف مستقبل المستشار شرودر السياسي في ظل صعوبة التنبؤ بتركيبة التحالف الحكومي الذي سيحكم ألمانيا بعد انتخابات يوم غد نظراً لتذبب آراء عدد كبير من الناخبين. ففي حال فقدان حزبه الاشتراكي الحاكم لمكانته كأقوى الأحزاب السياسية في ألمانيا، يتوقع الجميع أن يختفي شرودر من الساحة السياسية الألمانية كلياً. وفي هذا السياق تقول أخصائية العلوم السياسية أنطونيا غرونيبرغ في معرض تعليقها على التطورات الأخيرة التي شهدتها مرحلة الانتخابات الحاسمة: "هنا تكمن مفارقة أخرى، لأن غالبية الناخبين الألمان تعطي الأفضلية والثقة لتحالف حكومي كبير تحت قيادة المستشار الحالي وهي فرضية غير واقعية في الوقت الحالي وفقاً لمعطيات إستطلاعات الرأي العام".
لؤي المدهون