ظاهرة العمل التطوعي في ألمانيا- تكفير عن الماضي وتواصل مع الآخر
٣٠ أبريل ٢٠٠٨يعد الانخراط في الأعمال التطوعية مثالا حيا على القيم الإنسانية الراقية التي تقوم على البذل والعطاء ومؤشرا على الحيوية والديناميكية التي يتمتع بها أفراد المجتمع ومقياسا لمقدار ما يقدمه الفرد من عطاء لمجتمعه ولغيره في مجالات شتى. ويعطي العمل التطوعي أيضا صورة عن مدى انتماء الأفراد لمجتمعاتهم وبلدانهم ومدى إحساسهم ببعدهم الإنساني، الذي يتجاوز حدود الجغرافيا ويسمو على وقائع التاريخ، وذلك مهما اختلفت أشكال هذا التطوع ودوافعه وتوجهاته باختلاف المجتمعات وتنوع الثقافات.
كما تتنوع أهداف المتطوعين ما بين الرغبة في اكتساب خبرات جديدة وتنمية المهارات الفردية وبين الرغبة في تكوين جسور للتواصل مع شعوب من حضارات أخرى، لاسيما من خلال التطوع في الخارج الذي يشكل إثراء للشخصية وصقلا لها.
غير أن درجة الإقبال على العمل التطوعي والانخراط في الأعمال الخيرية والإنسانية وخاصة تلك المتعلقة بمهمات خارجية تختلف من شعب إلى آخر. كذلك تحكمها عوامل ذاتية وأخرى خارجية، فنراها تنشط في أوقات الحروب والصراعات، حيث يتجاوب الكثير من الناس مع حاجات الذين يعانون من وطأة هذه الحروب أو في وقت الكوارث الطبيعية، بينما تقل في صفوف المجتمعات التي تجهل "ثقافة التطوع" والمبادرة. كما تختلف أيضاً حسب طبيعة المنظومات القيمية والثقافية والدينية، التي تشكل دوافع ومحفزات العمل التطوعي لدى الكثير من المجتمعات.
التطوع في ألمانيا: "قدرات مختلفة...فرص متعددة"
ويعد العمل التطوعي أو ما يطلق عليه حاليا "رأس المال الاجتماعي"، ظاهرة في المجتمع الألماني نظراً للأعداد الكبيرة التي تنخرط في الجمعيات الناشطة في مجالات الخدمات الإنسانية والاجتماعية والثقافية. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن نحو %45 من الألمان ممن تتجاوز أعمارهم 15 عاما ينخرطون في أعمال تطوعية. كما تكثر الجمعيات الألمانية التي تنشط في الخارج والتي ترسل متطوعين للانخراط في مجالات شتى، كتقديم الخدمات الصحية في عدد من الدول التي تعاني من ويلات الحروب أو الكوارث البيئية. وتطرح هذه المنظمات شعار "قدرات مختلفة...فرص متعددة"، من أجل الحث على الإقبال على الأعمال التطوعية واكتساب مزيد من المعارف.
وتشكل الأندية والمراكز الشبابية بوابة رئيسة لاستقطاب المتطوعين الشباب في ألمانيا، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن ربع الشباب في ألمانيا ينتظمون في نحو 900 اتحاد ومنظمة شبابية. ومن هذه المنظمات اتحاد الشباب الألماني الكاثوليكي واتحاد اتحاد الشباب الإنجيلي وحلقة الكشافة الألمان، أما أكبر منظمات الشباب في ألمانيا من حيث عدد المنتسبين فهي منظمة الشباب الرياضي الألمانية.
"التكفير عن الذنب من خلال خدمة السلام"
غير أن العمل التطوعي في ألمانيا لم ينحصر في البعد التقليدي الكلاسيكي للأعمال التطوعية، بل تعداه إلى مفهوم آخر، يرتبط بالتاريخ النازي بكل فظائعه وويلاته وذلك من خلال العمل على استخلاص الدروس والعبر من هذا الماضي الأليم. ولعل منظمة "التكفير عن الذنب من خلال خدمة السلام" خير مثال على ذلك، لاسيما أنها منظمة جعلت من شعار السلام بين الشعوب والتكفير عن بالذنب من جرائم النازيين هدفا لها. وتحتفل هذه المنظمة اليوم 30 ابريل /نيسان بعيد ميلادها الخمسين، حيث تعود جذور تأسيسها إلى لوثر كريسيج، الذي تقدم في 30 ابريل من عام 1958 بطلب إلى المؤتمر الكنسي الإنجيلي في ألمانيا لتأسيس منظمة تعنى بتعزيز مظاهر الوفاق والتصالح مع البلدان والشعوب التي وقعت ضحايا لفظائع النازيين.
"التطوع خير هدية لأرواح ضحايا الهولوكست"
وذكرت هذه المنظمة الألمانية الرائدة في موقعها على شبكة الانترنت أن "هدفها الرئيس يمكن في تعزيز أواصر المحبة والسلام بين أفراد الشعوب والعمل على نصرة الضعفاء من أبناء الطبقات الضعيفة في المجتمعات". وتنشط هذه المنظمة بشكل رئيس في مجال مكافحة مظاهر العداء للسامية من خلال عقد ورشات عمل وتنظيم حملات للتعريف بالماضي الوحشي للنازيين والجرائم التي اقترفوها بحق اليهود.
وينشط المتطوعون في هذه المنظمة في أكثر من اثنتي عشرة دولة، في أوروبا وأمريكا وفي إسرائيل. وقد قامت المنظمة بإطلاق عدة حملات تطوعية في مدن تل أبيب وحيفا والقدس من خلال أعمال التطوع في مراكز إيواء المسنين أو في مراكز ذوي الاحتياجات الخاصة أو في بيوت الشباب وفي غير ذلك من مرافق التطوع. وحسب هذه المنظمة، فقد شارك حتى الآن نحو 1500 شخص في أعمال التطوع في إسرائيل منذ بدء أعمال هذه المنظمة في هذا البلد عام 1961، حيث تمتد مشاركة الفرد الواحد على مدى عام.
وقد واجه عمل هذه المنظمة الكثير من الصعوبات في إسرائيل، حيث يقول يوهانس جوكلر، أحد المتطوعين السابقين من هذه المنظمة في إسرائيل، عن تجربته هذه: "على الرغم من صعوبة معالجة مخلفات الماضي المثقل بالآلام وفظائع النازية، غير أن تجربتي التطوعية علمتني أن العمل من أجل التسامح والوئام والتسامي على جراح الماضي هو خير هدية لأرواح ضحايا الهولوكست".
تركز هذه المنظمة أيضا على مواجهة مظاهر العداء للأجانب في ألمانيا، وذلك من خلال القيام بحملات تطوعية مشتركة بين متطوعين ألمان ومتطوعين من ذوي أصول مهاجرة، ليكون هؤلاء المتطوعون في النهاية سفراء للتعايش والتسامح بين أفراد المجتمع الواحد على اختلاف منابتهم ومشاربهم.