"علمانية... إن شاء الله"
٩ أكتوبر ٢٠١١في آخر شهر يونيو/ حزيران 2011 اقتحم مئات من السلفيين إحدى دور العرض السينمائية في قلب تونس العاصمة، وهشموا الأبواب الزجاجية واعتدوا على الزوار. كان الهدف هو منع عرض فيلم وثائقي للمخرجة ناديا الفاني، يحمل عنواناً مستفزاً هو Ni Allah, Ni Maître (أي: لا رب، ولا سيد). في هذا الفيلم تنتقد المخرجة التونسية تزايد سلطة الدين في المجتمع التونسي في الآونة الأخيرة، كما تفضح الرياء المجتمعي الذي يحافظ على مظاهر التدين دون الالتزام بجوهره.
غيّرت المخرجة عنوان الفيلم الوثائقي ليكون أقل استفزازاً، وحاولت عرضه تحت عنوان: "لائكية (علمانية) إن شاء الله"، غير أن ذلك لم يقلل من حدة الهجوم على الفيلم ومخرجته. ولم يجد الفيلم داراً سينمائية تقبل عرضه، أما مخرجته فقد تلقت تهديدات بالقتل على الفيسبوك.
الجدل يصل إلى كولونيا
ولم يكن عرض فيلم "لائكية إن شاء الله" أقل إثارة للجدل في مدينة كولونيا الألمانية، حيث عُرض الفيلم بحضور المخرجة في إطار الأيام السينمائية التي نُظمت في متحف "لودفيغ" تحت عنوان "لا خوف بعد اليوم". وخلال هذه الفعالية عُرضت عدة أفلام صورت قبل وبعد "الربيع العربي" في تونس ومصر. لم يتهجم أحد من الجمهور على المخرجة ولم يطالب أحد بقتلها، لكن الفيلم فجّر نقاشاً حاداً بين جمهور الحاضرين - لاسيما من التونسيين- وبين المخرجة.
يبدأ الفيلم بمشاهد من الثورة التونسية قبل سقوط بن علي وبعده، ثم تعود الفاني إلى الوراء، إلى شهر أغسطس/ آب 2010، حيث بدأت تصوير فيلمها. انطلاقاً من شهر رمضان تفضح المخرجة الازدواجية الأخلاقية والدينية التي يعيشها المجتمع التونسي، فنشاهد العشرات يتكالبون على محلات بيع الخمور قبل بدء شهر رمضان، ويشترون أكبر كمية ممكنة من النبيذ والبيرة قبل أن تغلق المحال أبوابها خلال شهر الصوم.
ويرى المشاهد المقاهي تحفل بالرواد خلال النهار. هناك يجلس الرجال ويشربون القهوة ويثرثرون. الفارق الوحيد: إنهم لا يجلسون في الخارج، بل يختبئون في الداخل حتى لا يرى أحد أنهم غير صائمين.
هواجس ترفية؟
قد تبدو الهواجس التي يناقشها الفيلم هواجس ترفية، إذا ما قارناها بما يحدث في بلدان أخرى، حيث يقوم المتطرفون بالهجوم على كنائس الأقباط في مصر مثلاً، أو هدمها وحرقها. أليس من التسطيح أن نحصر العلمانية في شرب الخمر والإفطار في رمضان؟ "بالطبع"، تقول ناديا الفاني في حديثها إلى دويتشه فيله بعد انتهاء عرض الفيلم. "رمضان يقدم مثالاً فحسب"، وهذا المثال يبرز أهمية إجراء نقاش حول العلمانية حتى لا يفعل الناس في الخفاء ما يفعلونه خلف الأبواب المغلقة.
في أحد المشاهد في الفيلم تقول المخرجة إن سبعين في المائة من التوانسة لا يصومون في رمضان، لكنهم يتظاهرون بالصيام. وقد أرجعت المخرجة هذه الازدواجية إلى سياسة بن علي الذي "استخدم الدين لترسيخ أركان حكمه"، وقام "بدعم الإسلاميين لمواجهة اليسار، وبدعم اليسار لمواجهة الإسلاميين".
بعد عرض الفيلم تساءلت إحدى الألمانيات: تونس علمانية منذ عهد بورقيبة - لماذا يتفجر النقاش الآن حول العلمانية؟ هل يرجع ذلك ربما إلى أنها كانت مفروضة من أعلى، ولم تكن مطلباً شعبياً؟ الفاني لم تجب إجابة مباشرة على هذا السؤال، بل أكدت على أهمية طرح نقاش حول العلمانية الآن، "فالوقت الآن هو الوقت المناسب قبل كتابة الدستور الجديد". وهذا الدستور يجب أن ينصّ بوضوح على الفصل التام بين الدين والدولة، في رأي الفاني، بحيث يكون الدين شأناً خاصاً، لا علاقة للدولة به. وفي هذا الصدد أشار أحد الألمان إلى أن النموذج الألماني للعلمانية، الذي يفصل بين الدين والدولة دون إنكار المبادئ والقيم المسيحية، ربما يكون أقرب إلى طبيعة المجتمع التونسي المتدين، من النموذج الفرنسي الذي يتجاهل الدين تماماً.
"إنها البداية"
أحد التوانسة الذين يعيشون في ألمانيا احتد في هجومه على ناديا الفاني، متهماً إياها بتقديم تونس أخرى غير التي يعرفها: "أنت لا تمثلين سوى واحد في المائة من الشعب التونسي"، ولهذا فإن الفيلم – في رأيه – لا يمثل مشاكل المجتمع التونسي. تونسي آخر تساءل: "لماذا هذا التوقيت بالذات؟ العلمانية مهمة، ولكن هناك مشاكل أكثر إلحاحاً تواجه التونسيين الآن".
بثقة ومرح قالت ناديا الفاني عندما انفجر النقاش الحاد: "لستُ بن علي حتى أحصل على إجماع من الآراء يصل إلى نسبة 99 بالمائة. ما يهمني هو إثارة النقاش". وهذا ما نجحت فيه بامتياز المخرجة التي حصلت في شهر يونيو/ حزيران الماضي على الجائزة الدولية للعلمانية في باريس. والنقاش حول العلمانية سيستمر، سواء في تونس أو في كولونيا. ولهذا أحسنت ناديا الفاني عندما اختتمت فيلمها بكلمتين: "إنها البداية".
سمير جريس
مراجعة: عماد غانم