عماد الدين حسين: ربيع الميلشيات في الشرق الأوسط
٢٩ سبتمبر ٢٠١٦في 25 من سبتمبر/ أيلول الجاري قرأت ملخصاً لدراسة في غاية الأهمية أصدرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة في عدده رقم 79. عنوان الدراسة "دوامة الفوضى ..انعكاسات الجيوش الموازية على الاستقرار في الشرق الأوسط".
المعلومات والتوقعات الواردة بالدراسة شديدة التشاؤم لسكان المنطقة العربية وربما الإسلامية، وينبغي أن يتعامل معها الجميع بأكبر قدر من الجدية، ليس لمنعها تماماً بسبب صعوبة ذلك، ولكن على الأقل للحد من أثارها السلبية.
تقول الدراسة إن الجيوش الوطنية لم تعد هي المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية في بعض دول الإقليم، إذ شهدت السنوات الست الماضية تعاظم تأثير العناصر المسلحة غير النظامية إلى درجة إطلاق الأدبيات عليها "الجيوش الموازية". وتمثل هذه في بقايا أو كتل رئيسية من الجيوش النظامية والميلشيات والكتائب المناطقية والجماعات الطائفية والأجنحة العسكرية والتشكيلات الشعبية والفيالق الثورية والتنظيمات العشائرية والمنظمات الإرهابية، فيما يشبه مجازاً "جيوش قطاع خاص" بالمنطقة.
هذه الجيوش سيطرت على مساحات جغرافية في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بدول كبرى، وتمتلك موارد اقتصادية وقدرات تسليحية وتدير علاقات مع دول وفاعلين خارجيين؛ وتمكنت من خلق نمط "حروب استنزاف صغيرة" في مواقع متعددة، على نحو يضمن بقاءها، وهو ما يُسهم في استمرار دوامة الفوضى.
تقول الدراسة إن دولاً عديدةً بالمنطقة شهدت ميلاد أو تزايد تأثير جيوش جوالة مصغرة ، تتسلح بأسلحة متنوعة، ولها قواعد للتدريب، بما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية، مثل جيش حفتر وقوات السراج في ليبيا، والألوية التابعة لعلي عبد الله صالح وميلشيا الحوثيين في اليمن، و"الجيش الحر" في سوريا، و"حزب الله" في لبنان، و"الحشد الشعبي" و"البشمركة" في العراق، و"الحرس الثوري" في إيران، والميلشيات التابعة لرياك مشار في مواجهة قوات سلفا كير في جنوب السودان، وجماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، وحركة "شباب المجاهدين" في الصومال.
يقول تقرير للكونغرس، في يونيو/ حزيران الماضي، إن تنظيم "داعش" كوّن على الأقل ستة جيوش فعالة في سوريا والعراق وليبيا واليمن ونيجيريا وأفغانستان.
هذه الجيوش الموازية لم تكن وليدة سنوات ما بعد الحراك الثوري، بل أن بعضها كان صنيعة قادة الدول في بعض الأحيان، إذ لجأ الرئيس الليبي السابق معمر القذافي إلى تشكيل الجيش الليبي بواسطة الميلشيات الثورية المتنوعة وقوات حماية النظام وخاصة "الكتائب الأمنية".
الباحث يزيد صايغ وصف هذة الظاهرة بـ"القوات المسلحة الهجينة داخل الدولة الهجينة". فعقب انهيار نظام القذافي، شهدت البلاد انقساماً تمخض عنه حكومتان وبرلمانان وجيشان متنافسان في طرابلس غرباً ومدينتي طبرق والبيضاء شرقاً، ولا تزال تلك المعضلة باقية.
ولم يكن الجيش اليمني بعيداً كثيراً عن الحالة الليبية، لا سيما فيما يخص تعاظم الانتماءات المناطقية والقبلية في أسس التجنيد والترقي داخله.
وفي العراق أوكلت الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 قضايا الدفاع الوطني وحماية النظام لمجموعة من الميلشيات الطائفية. وأوضح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أنَّ "قوات الحشد الشعبي جزء من الدولة التي تدفع رواتب أعضائها وتنسق عسكريّاً مع قادتها".
تمدد الجيوش الموازية في بعض دول الإقليم فرض تداعيات عديدة على استقرارها، يتضح في النقاط التالية:
أولاً الاختراق الموازي: وهو الاستنزاف المتواصل لهيبة الدولة، إذ أدى الحراك الثوري إلى انهيار دول وليس مجرد سقوط نظم، إلى درجة أن هناك اتجاهاً في الأدبيات يشير إلى "ربيع الميلشيات" في المنطقة، لا سيما مع وصول ميلشيا مسلحة إلى السلطة مثل جماعة الحوثيين في اليمن. وصارت تلك الجيوش أداة سياسية يتم الضغط بها على استقرار الدول.
ثانياً تعميق الفوضى في المجتمعات المنقسمة داخليّاً: وهو ما يمثل نتيجة مباشرة لضعف بنية الدولة واختراق القوى الاجتماعية لها بما يؤدي إلى اتساع ظاهرة الولاء إلى ما دون الدولة، وأبرزها لبنان.
ثالثاً:توسيع قاعدة الجماعات المؤيدة داخل وعبر حدود الدول حيث يؤدي الصعود السياسي لجيش موازٍ في دولة ما إلى ازدياد الدافعية له للمزيد من الانتشار، على غرار ما يقوم به تنظيم "داعش" و"حزب الله".
ويتوازى مع ذلك ما كشف عنه "الحرس الثوري" الإيراني، في 18 أغسطس/ آب الماضي، عن مخطط لإنشاء ما سُمي بـ"جيش التحرير الشيعي" تحت إشراف قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني للقتال في ثلاث جبهات هي سوريا والعراق واليمن. ويضم ميلشيات مثل "زينبيون" من المقاتلين الباكستانيين و"حيدريون" من الشيعة العراقيين و"فاطميون" من المقاتلين الأفغان.
رابعاً أثر المكانة: أي ازدياد حدة الصراعات الداخلية العربية المسلحة بعد تصاعد التنافس بين الجيوش الموازية، حيث بدأ يسود في بعض الكتابات ما يعرف بأثر "التنافس الجهادي" بين الفواعل المسلحة.
وفي هذا السياق، يمكن توقع حرب ليبية- ليبية حادة سيطرة قوات خليفة حفتر علي منطقة "الهلال النفطي"
خامساً: انتعاش السوق السوداء للأسلحة الصغيرة والمتوسطة: خصوصاً عقب تفكيك عدد من الجيوش النظامية في العراق وافغناستان عقب الغزو الأمريكي، واستيلاء شبكات أو جماعات مصالح اقتصادية على أسلحة الجيوش، والتي تقوم بالاتجار بها في السوق السوداء.
سادساً تجاوز السيادة: أي المساس باستقلالية القرار الخارجي في ظل هشاشة النظم الحاكمة، وهو ما تعبر عنه حالة "حزب الله" في لبنان، إذ تتماهى القرارات الصادرة عن وزارة الخارجية اللبنانية في اجتماعات الجامعة العربية مع التوجهات الإيرانية أكثر من تلبية المصالح الوطنية اللبنانية، كما دفع "حزب الله" بكثير من عناصره إلى سوريا لحماية نظام الأسد في سوريا.
سابعاً: تمهيد المجال لمزيد من التدخلات الدولية والإقليمية في الشؤون الداخلية، حيث لم تعد السيادة الوطنية تحظى بأهمية وقدسية خاصة، وباتت بعض القوى الإقليمية والدولية تدعم أحد الجيوش الموازية داخل هذه الدولة أو تلك على نحو ساهم في تحويل مسارات الصراعات المسلحة في الإقليم من النطاقات الداخلية إلى الأبعاد الإقليمية الممتدة، والنتيجة أن التسوية صارت مرهونة بتوازنات إقليمية وتفاهمات دولية.
خلاصة القول: تمثل الجيوش الموازية واحدة من الحقائق الرئيسية في الإقليم، لدرجة دفعت بعض شبكات مراكز الأبحاث لإنشاء مراصد إنذار مبكر خاصة بالجيوش الموازية العابرة لحدود دول الإقليم، وأصبح على مؤسسات الدول القائمة التعامل مع تلك الجيوش بجدية شديدة، لأنها قد توجه تهديدات ضدها، أو تُنفذ تفجيرًا بداخلها، غير أن بعض الدول قد تواجه معضلة رئيسية تتمثل في بناء جيوش وطنية جديدة بعد كبح الفوضى الإقليمية الحالية.
عماد الدين حسين