فرويد – منظر الروح وكاشف الأعماق
١٤ مارس ٢٠٠٦قبل مائة وخمسين عاما، وبالضبط في السادس من مايو 1856 ولد سيجموند فرويد مكتشف التحليل النفسي. هذا العالم الذي مازال عمله يثير الكثير من الأسئلة والخصومات سواء في ميدان العلوم الاجتماعية أو الطب النفسي أو الفن والنقد الأدبي. فرويد كما يقول مؤرخو تاريخ الأفكار أحد العمالقة الثلاث الى جانب داروين ونظريته عن النشوء والارتقاء والى جانب كوبرنيك، أحد هؤلاء العمالقة الذين جرحوا نرجسية الانسان وأزالوا القناع عن مركزية الذات والوعي الانسانيين سواء اتجاه العالم الخارجي أو اتجاه الأقاليم الروحية للانسان. أراد فرويد أن يكشف الغطاء عن الطبيعة البشرية بدل أن يتركها سجينة سلطة البيولوجيا، أراد مساعدة الانسان على أن يحيا حياته الفردية في المجتمع.
لكن بعد سبعة واربعين عاما من حياته في فيينا، اضطر سنة 1938 في الثالث والعشرين من سبتمبر وهو في الثانية والثمانين من عمره، ثلاثة اسابيع فقط بعيد اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى مغادرة موطنه وأبحاثه باتجاه بريطانيا بعد أن عمد النازيون الى حرق كتبه في مدينة نورنبرغ. سنة 1939 توفي فرويد لكن نظريته ومنهجيته عرفتا انتشارا واسعا في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، في حين ظل التحليل النفسي محظورا في الاتحاد السوفياتي وفي أغلب الدول غير الديمقراطية.
التحليل النفسي في أزمة؟
كثر الحديث عن أزمة التحليل النفسي. يقولون بأنه قد تم تجاوز فرويد. لقد اكتشف المجتمع المعاصر بأن عمله لا يكفي من أجل فهم الانسان، ولا من أجل تأويل عميق لعلاقته بالعالم.على هذه الادعاءات يرد المحلل النفسي الكبير جاك لاكان قائلا:
"إنها مجرد ترهات. بداية، الأزمة. ليس هناك أزمة ولا يمكن أن تكون. فالتحليل النفسي لم يكتشف بعد حدوده الخاصة، ليس بعد. هناك أشياء كثيرة يجب اكتشافها في التطبيق وفي المعرفة. في التحليل النفسي ليس هناك حلا فوريا، بل فقط البحث الطويل والصبور عن الأسباب. ثانيا، فرويد. كيف ندعي أنه قد تم تجاوزه في الوقت الذي لم نفهمه بعد بطريقة شاملة؟ المؤكد، هو أنه جعلنا نفهم أشياء جديدة كل الجدة، لم يكن بإمكان المرء حتى تصورها قبله. من مشاكل اللاشعور إلى أهمية الجنس، ومن الولوج إلى الرمزي، إلى الامتثال لقوانين اللغة. لقد وضع مذهبه الحقيقة موضع سؤال، إنها مسألة تهم الجميع وكل شخص على حدة. مخالفة لكل ما يمكن أن نسميه أزمة. وأكرر: إننا بعيدون عن فرويد. واسمه قد ساهم أيضا في تغطية العديد من الأشياء، كانت هناك انحرافات، الورثة لم يتبعوا بإخلاص النموذج، مما تسبب باللبس. بعد وفاته سنة 1939، زعم بعض تلاميذه تطبيق التحليل النفسي بشكل مغاير، مختزلين تعاليمه إلى بعض الصيغ المبتذلة: التقنية كطقس، التطبيق المقتصر على علاج السلوك، وكوسيلة لإعادة تبيئة الفرد بوسطه الاجتماعي. إن ذلك نقيض فرويد، تحليل نفسي رفاهي، صالوني".
عالم الأعصاب والفيلسوف الألماني غرهارد روث يتفق مع لاكان على راهنية التحليل النفسي. ويرى بأن عشرين في المائة من مجموع المجتمع الألماني مرضى نفسيون. والعقاقير الطبية وحدها لا تكفي لعلاجهم. والبحث العلمي يؤكد أهمية فرويد. فنحن مدينون له بنظرية شاملة عن الروح. ومبحث الأعصاب يؤكد هذه النظرية على الأقل في ثلاثة جوانب أساسية: اللاوعي له تأثير كبير على الوعي وليس العكس. اللاوعي يتكون زمنيا قبل الوعي ومكوناته، والأنا الواعية لا تملك معرفة كبيرة بأسس احلامها وسلوكياتها.
التحليل النفسي والعالم الثالث
يعرف التحليل النفسي مقاومة كبيرة في العالم الثالث من طرف السلطات السياسية و ايضا من طرف ممثلي البنى التقليدية في المجتمع. فنحن أمام علم لا يمكن أن يسود ويشتغل الا في مجتمعات عرفت ما يطلق عليه فرويد القتل الرمزي للأب، وبلغة أخرى، في مجتمعات تؤمن بالفرد وحريته. فإذا استثنيا البرازيل التي عرفت التحليل النفسسي منذ سنة 1910 والتي تم فيها الاعتماد على هذا العلم من أجل فهم المظاهر الاجتماعية والتغيرات الناتجة عن الحياة المدينية والسلوكات الجنسية الطبيعة منها والشاذة، فإن افريقيا مثلا، ورغم تعرفها على التحليل النفسي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية مع وصول محللين نفسيين افارقة وغربيين من الغرب، إلا أنها وبسبب استحاكم البنى التقليدية وانتشار الطب التقليدي وأيضا بسبب الوضعية الاجتماعية المتردية لهذه القارة، يعجز العديد من المحللين النفسيين الأفارقة على ممارسة علمهم. وتقول دراسة ظهرت مؤخرا في السنغال بأن تسعين في المائة من المواطنين يستشيرون أطباء تقليديين بخصوص مشاكلهم النفسية.
وفي العالم العربي، لم ينتشر التحليل النفسي كطريقة علاج ، بل نظرية يستهلكها المثقفون والأكاديميون والنقد الأدبي والاجتماعي، كما هو الحال في كتابات مصطفى حجازي عن سيكولوجية الانسان المقهور أو جورج طرابيشي عن الرواية العربية . وفي لبنان تاسست أول جمعية للتحليل النفسي في كل العالم العربي والاسلامي سنة 1980 من طرف فرنسيين ولبنانيين مسيحيين. سنة 2005 ثم تنطيم مؤتمر حول التحليل النفسي في المجتمع العربي والاسلامي بمشاركة اسماء لامعة في هذا الميدان من مثل فتحي بنسلامة وسمير قصير الذي تم اغتياله ثلاثة اسابيع بعيد هذا الاجتماع، وطرح هذا المؤتمر قضية العلاقة بين السلطة والحرية في مجتمع محكوم بالاسلام. وفي المغرب، يعتبر جليل بناني أول مؤسس لجمعية للتحليل النفسي في شمال افريقيا، تحت حكم الحسن الثاني، في زمن كان ممنوعا فيه النطق علنا باسم التحليل النفسي. وهكذا ارتبط التحليل النفسي منذ بداياته بالمجتمعات الديمقراطية، وهناك حيث تبدأ المجتمعات بطرح أسئلة على تاريخها والانتفاض ضد وصاية التقاليد، هناك فقط يمكن لهذا العلم أن يبدأ رحلة اكتشاف الأقاليم المجهولة للروح الانسانية.
رشيد بوطيب