لجوء مسيحيي معلولا إلى دمشق.. كالمستجير من الرمضاء بالنار
٢٨ نوفمبر ٢٠١٣وصلت مادلين حسب الموعد، سرنا معاً للتعرف على عمتها بعد أن نزحن من مدينة معلولا الأثرية نتيجة الاشتباكات التي دارت هناك، ما اضطرهن للجوء إلى دمشق حيث استأجرتا منزلاً قديماً في حي باب توما المسيحي. مشينا في أزقة الحي الدمشقي العريق، ثم اتجهنا من ساحة باب توما إلى حي باب شرقي ذي الغالبية المسيحية أيضا عبر شارع القشلة، أحد أقدم شوارع الحي. كان الشارع شبه خال من المارة علماً أنه وفي هذه الأوقات من كل عام كان يعج بالناس وتتعالى فيه صيحّات بائعي البسطات المنتشرة على جانبي الطريق الرئيسي. مادلين شرحت لـ DW عربية أسباب خلو الشارع من المارة قائلة إن "المنطقة تتعرض، ومنذ فترة، لسقوط قذائف هاون بشكل عشوائي. والعيش وسط هذه الحالة يطغى عليه الخوف والترقب". وشبهت مادلين الحياة في دمشق بـ "العيش في معسكر مغلق".
وصلنا إلى المنزل، بيت دمشقي مهجور وبابه أسود خشبي كبير. فتحت لنا العمة جورجيت الباب وجلسنا في أرض الديار (باحة المنزل). كانت تحمل في يدها ألبوم صور يحوي ذكريات ولديها طوني وفادي وزوجها ميشال؛ فالمعارك التي اندلعت في مدينتها أودت بحياة جميع أفراد أسرتها وبقيت لوحدها تسكن مع ابنة أخيها الوحيدة مادلين.
وتروي مادلين لـ DW عربية أنه "في الرابع من شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، قامت جبهة النصرة، (مجموعة إسلامية متطرفة تابعة لتنظيم القاعدة) بتفجير سيارة مفخخة على مدخل المدينة". التفجير استهدف، حسب مادلين، الحاجز العسكري التابع للجيش السوري هناك وأسفر عن مقتل جميع عناصره.
وكان هذا التفجير إيذاناً ببدء المعارك بين كتائب إسلامية من المعارضة المسلحة والقوات الموالية لنظام الأسد واستخدم الطرفان جميع أشكال الأسلحة الثقيلة والخفيفة، ومازالت المعارك دائرة ولكن بشكل متقطع.
كيف؟ ولماذا؟ ذكريات حزينة
بعدها دارت اشتباكات عنيفة وتعرضت منازل المدينة والمحال التجارية للقصف والدمار جراء المعارك، كما سقطت عدة قذائف بالقرب من دير (مار إلياس) نتج عنها تصاعد دخان كثيف، فظن الناس في البداية أنّ الدير قد دمر واحترق، ما دفع بمعظمهم للفرار من هذه المدينة التاريخية باتجاه العاصمة دمشق. بيد أنه تبين فيما بعد أنّ الدير لم يصبه شيء.
العمة جورجيت وصفت تلك اللحظات "بالعصيبة" واستدركت قائلة لـ DW عربية "لم تتوقف أصوات الرصاص وقذائف الهاون حتى ساعة متأخرة من الليل. يومها سمعت أنه تم خطف ولدي الاثنين وزوجي. وفي اليوم الثاني قررنا أن ننزح أنا ومادلين".
العمة جورجيت وهي تقلب صور عائلتها، تساءلت "كيف ما حدا عرف شيء عن خطفهم وإعدامهم وهوية الجهة يلي قامت بذلك؟" كانت تتحدث وعينيها تذرفان الدموع حزناً على فراقهم وعبرت بصوت حزين لـ DW عربية "ابني طوني كان عمره 35 سنة، متزوج جديد وابني فادي كان عمره 20 سنة أول سنة طالب بالجامعة، وزوجي ميشال كان عمره حوالي الـ 60 سنة. كلهم قتلوا بنفس اليوم. طيب ليش ومنشان شو؟" تتساءل العمة جورجيت؛ هنا توقفت عن الكلام وبكت قليلاً ثم حاولت جمع قواها وتابعت حديثها "نحن لا مؤيدين ولا معارضين ليش عملوا فينا هيك؟"، دون أن تحدّد اسم الجهة المسئولة عن عملية الخطف والقتل.
عامر القلموني مدير المركز الإعلامي السوري في القلمون، القريب من المعارضة، أكد لـ DW عربية أنّ "الجيش الحر" أعلن في اليوم الثاني وقف إطلاق النار ليتمكن الأهالي من النزوح عن المدينة، علماً أنّ البعض فروا تحت نيران القصف والاشتباكات".
معلولا التي تتكلم لغة المسيح
بلدة معلولا، التي تقع شمال شرق دمشق وتبعد 50 كلم عنها، تحوي معالم تاريخية من أديرة وكنائس وممرات صخرية وهي آثار مسيحية قديمة وهامة في تاريخ الديانة المسيحية. ومن أهم هذه المعالم "دير مار تقلا البطريركي" و"دير مار إلياس" وكنيسة بيزنطية قديمة وأضرحة بيزنطية منحوتة في الصخر في قلب الجبل. كذلك دير مار سركيس، الذي بني في القرن الرابع الميلادي على أنقاض معبد وسمي باسم القديس سركيس أحد الفرسان السوريين الذين قتلوا في عهد الملك مكسيما نوس عام 297 ميلادي.
وشرحت مادلين أنّه في اليوم الأول من المعارك تناقلت أغلب القنوات الفضائية والوكالات والمواقع الإخبارية الاشتباكات التي دارت في مدينة معلولا، التي مازال قسم من سكانها يتحدثون الآرامية، لغة السيد المسيح. وترى مادلين أن الإعلام ضخم الحدث ونقل أن الكنائس الأثرية تعرضت للقصف والدمار والسرقة "وقتها الخبر صار مادة دسمة، ونحنا كنا نزحنا لأننا ما كنا نعرف الحقيقة، لبين ما ظهرت الأم بيلاجيا سياف رئيسة "دير مار تقلا" وكذبت كل شيء".
في ذاك اليوم ظهرت الأم بيلاجيا سياف على شاشات الفضائيات ونفت بدورها الأخبار التي تناقلتها المحطات ووسائل الإعلام عن سرقة ودمار الأديرة الأثرية. وعن الأهمية الإستراتيجية لمدينة معلولا، أخبر عامر القلموني DW عربية أنّ" معلولا تأخذ أهمية معنوية أكثر منها عسكرية أو إستراتيجية فخطة المعركة كانت ضرب الحاجز ثم الانسحاب!!".
وعن أسباب عدم انسحاب تشكيلات "الجيش الحر" من معلولا؛ أوضح القلموني أنّ "محاولات قوات النظام الوصول إلى ما بعد معلولا وإحداث خرق في المناطق المحررة؛ هو ما دفعهم للتصدي لها وجعل المعركة مصيرية آنذاك لمنع تقدم القوات باتجاه المناطق المحررة".
استحالة البقاء في باب توما
مادلين والعمة جورجيت قررتا السفر خارج سوريا. فالعودة إلى معلولا أصبح ضرباً من الخيال بعد تمدد المعارك لتشمل باقي بلدات منطقة القلمون، مما يعني أنّ الحرب مستمرة، والعيش في حي باب توما الدمشقي أشبه "بالخدمة الإجبارية"، حسب وصف مادلين. فالحي يتعرض يوميا لقذائف هاون بشكل عشوائي. وتقول مادلين لـ DW عربية إنّ" قذيفة هاون سقطت على مدرسة يوحنا الدمشقي في حي القصاع قرب باب توما ما أدى إلى استشهاد 5 أطفال وإصابة 27 شخصاً بجروح". في الأثناء قاطعتها العمة جورجيت وأكدت هي أيضا ً"كمان الأسبوع الماضي سقطت قذيفة على حافلة لنقل التلاميذ في باب شرقي، وأدت إلى استشهاد 4 أطفال وسائق الحافلة، فضلاً عن إصابة عدد من الأشخاص بجروح".
وأدى سقوط قذائف هاون في مطلع الشهر الجاري إلى وقوع أضرار مادية في كنيسة الصليب المقدس في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية بعد أن كانت قد تعرضت لسقوط قذيفتي هاون. كما شهد حي باب توما سقوط قذائف هاون بشكل مكثف وشبه يومي خلال الشهر الجاري، ما تسبب في إلحاق أضرار مادية بمدرسة المنصور وكنائس الكلدان واللاتين والسريان الكاثوليك.
كمال شيخو ـ دمشق