لعنة النفط في يوميات طرابلس تحت وطأة الحرب
٢٨ مايو ٢٠١١إيقاع الحياة في العاصمة الليبية طرابلس تغير بشكل شبه كامل عما كان عليه قبل اندلاع "ثورة17 فبراير/شباط" في بنغازي وبداية الحرب التي تلتها. وككل مدينة في حالة حرب تعيش طرابلس حالة من الانتظار الممل لما هو قادم، ويجد أهلها انفسهم في وضع جديد لم يعتادوه أو يستعدوا له.
وفي الأيام القليلة التي تلت يوم 17 فبراير الماضي، خلت المدينة في بعض الأحيان من أي مظاهر للحياة وبدت مهجورة تماما وفقدت خلال أيام قليلة كل ما كان يميزها: غاب الأمن واختفت شرطة المرور من الطرقات وأقفلت مراكز الشرطة المدنية واغلب المحلات التجارية وبعض المخابز والصيدليات. وسيطرعلى أجواء المدينة الخوف وانتشرت الإشاعات والتزم السكان بيوتهم في حالة ارتباك خشية من المجهول، فيما بدا وكأنه عصيان مدني غير معلن وغير منظم، إلا انه لم يٌسجل ارتفاع في الجرائم التي تتفشى في مثل هذه الأحوال.
يوميات طرابلس تحت الحرب
المركز التجاري في الحي الذي أقيم فيه، يقع على بعد خمسمائة متر من بيتي، ويبعد عن وسط العاصمة خمس كيلومترات، كان يضج بالحياة وتزدحم فيه حركة المرور وتنتشر شمال الشارع الرئيسي فيه محلات الملابس والحلاقين. في حين يتركز الجزَّارون و باعة المواد الغذائية، جنوبه ويوجد به أكثر من خمسة حلاَّقين ومحطتي بنزين وعدد اكبر من الورش ومحلات الصيانة وأربع مخابز. كان الحي يعد احد أنشط المراكز التجارية في طرابلس، وفجأة بدا خاليا من المارة والمحلات مقفلة واختفى المتسوقون وأقفلت الورش كلها.
من بين المخابز الأربع لا يعمل الا اثنان بنصف طاقتهما العادية، الأمر الذي يعني ان تنتظر في طابور الخبز ربع ساعة على الأقل، بينما تفتح مخبزة ثالثة ساعات الضحى بابها الخلفي ليس لبيع الخبز وانما لبيع الدقيق بأضعاف ثمنه الأصلي المدعوم أصلا، محققا ربحا يفوق ربحه من بيع الخبز لأيام عديدة.
وفي النصف الأخير من شهر مارس/آذار الماضي قضيت ثلاثة أرباع الساعة أبحث عن حلاق، وحين عثرت عليه في وسط المدينة انتظرت ثلاث ساعات كاملة لكي احلق شعري وكان بالمحل الصغيرعامل واحد، وحين غادرته في السابعة مساءا كان عدد الزبائن المنتظرين قد تجاوز العشرة نصفهم يقف خارج المحل لقلة الكراسي داخله وضيق مساحته.
اما الحصول على اسطوانات غاز الطبخ فهي معاناة من نوع خاص، اذ عليك أن تنتظرما لايقل عن ساعة وانت تجرجر اسطوانة الغاز الفارغة وهي ليست بالخفيفة، وحين تستبدلها بأخرى ممتلئة سيكون عليك دحرجتها أو حملها الي حيث تركت سيارتك التي ستكون بسبب الازدحام حتما بعيدة عن مخزن توزيع الغاز. الملاحظ ان سعر أسطوانة الغاز لم يرتفع لدي المخازن التابعة للدولة في حين بلغ سعره خارجها عشرة أضعاف.
ثقافة الحرب
إنها ثقافة الحرب التي لا تعرفها طرابلس العاصمة الليبية ولعنة النفط التي ألمت بالشعب كغيره من الشعوب التي توارثت الكسل وتعفف أبناؤها عن أداء الكثير من الأعمال الخدمية، بسبب الوفرة المالية من النفط فصارت تعتمد على الأجانب في كل شيء تقريبا وحين غادر مئات الآلاف من العمال الوافدين المدينة بدت خالية الا من سكانها الذين التزموا بيوتهم.
ان الثروة و النعيم يمكن ان تكون نقمة على أهلها. فالنفط مكَّن الليبيين من العيش في رخاء بنسب متفاوتة مما جعل فكرة ثقافة الحرب او الأزمات الكبرى لا تشغل تفكيرهم كثيرا. الا ان طول فترة الأزمة وحتى مع استمرار القصف الجوي على المدينة، جعل الكثيرين يدركون ان لا خيار أمامهم الا العمل وفي أي مهنة كانت بل أن الكثير من الشباب يتطوعون لتنظيف الشوارع والحدائق وهي مهنة كانت تتولاها العمالة الافريقية الوافدة.
أما أزمة البنزين في بداياتها فكان سببها الرئيسي خروج العمالة من ليبيا، فالذين يديرون محطات وقود السيارات جلهم من الأفارقة في حين لا يمارس الليبيون الا الأعمال الإدارية في تلك المحطات المملوك أغلبها للدولة في حين يملك الأفراد القليل منها. ومع زيادة القصف الجوي من قبل النيتو وما يولده من خوف وخطر في تنقل صهاريج الوقود إلي المحطات، بات اغلب ملاَّكي محطات الوقود يرفضون فتح محطاتهم أمام السائقين مما فتح المجال واسعا أمام تجار الحرب ليحققوا أرباحا طائلة من جراء تهريب الوقود وبيعه خارج المحطات، حيث يٌباع بمائة وخمسين درهما (حوالي 8 سنتات اوروبية) للتر ليبلغ سعره في السوق السوداء ما بين ستة الآف وثمانية آلاف درهم أي حوالي أكثر من أربعين ضعفا، بل ان حالة القلق دفعت بالبعض إلى تخزين الوقود في صهاريج في بيوتهم رغم خطورة الأمر.
ومع ان الشركات الموزعة للوقود اتخذت اجراءات تنظيمية من قبيل تخصيص محطات لذوي الاحتياجات الخاصة وأخرى للنساء وثالثة لسيارات الأجرة و تحديد الكمية المباعة لكل سائق بحد أقصى أربعون لتر في الأسبوع، الا ان النقص بدا حادًّا لأسباب عدة على رأسها الحظر وتهريب الوقود خارج المحطات وإغلاق عدد منها.
اختفاء الحرفيين
ولعل تفشي ثقافة الاستهلاك في السنوات الأخيرة نتيجة السهولة النسبية في الحصول على المال المتأتي من النفط، أدى إلي انتشار ثقافة الكسل والاعتماد الكلي تقريبا على الأجانب في كافة المهن التقنية، من صيانة السيارات إلى إدارة محلات الخضار وحتى محلات بيع السجائر التي يسيطر عليها المصريون، إلى محلات بيع أسطوانات الغاز التي يهمين على أغلبها الأفارقة في حين ينفرد السوريون بأعمال الصيانة المنزلية و بعض أنواع المخابز التي تقدم أصنافا معينة من الخبز.
ويتولى التونسيون خدمات أكثر حرفية كالنجارة واللحام المنزلي. وقد قضيت شهر مارس/آذار الماضي كله تقريبا أبحث عن فني لحام ليستبدل لي بابا حديدا، وفي النهاية عثرث على ضالتي عند الورشة الوحيدة التي تعمل في الحي الصناعي حيث توجد عشرات الورش المقفلة في حي صلاح الدين جنوب طرابلس، وهو الحي الدي ذاع اسمه بسبب قصف بعض المواقع فيه من قبل النيتو عدة مرات في أبريل/نيسان الماضي.
وما كنت لأعرف تلك الورشة لولا ان صديقي النجار التونسي علي القابسي قد دلني عليها، ومضى على وجود علي في طرابلس أكثر من عشر سنوات حتى صار معروفا جدا كأمهر النجارين ولم يغادر ليبيا رغم ان زوجته وأولاده في تونس. الا ان شريحة العمالة التي اختفت نهائيا هم من العمال الأفارقة، الذين كانوا يتخذون من بعض الشوارع مكانا للعمل في إصلاح الأحذية وخياطة الأشياء الصغيرة ونظرائهم ممن كانوا يجلسون في بعض تقاطعات الطرق الرئيسية انتظارا لفرصة عمل يدوي منزلي في أغلب الأحيان.
محلات لم تغلق رغم الحرب
وبحلول منتصف أبريل بدأت الحياة تعود الي طبيعتها جزئيا الا ان بعض المحلات التجارية ظلت مقفلة، اللهم الا محلات الملابس التي بقيت مفتوحة أغلب الوقت لأن العاملين فيها هم غالبا أصحابها او أبناؤهم وأقاربهم من المتفرغين لهذه الأعمال، ولكن من يشتري الملابس في زمن الحرب؟ فقد اشتكى لي أحد أصحاب محلات الملابس في الحي انه لم يبع قطعة واحدة في شهر كامل في حين عليه دفع ايجار المحل شهريا وهو مبلغ كبير نسبيا.
ويمارس المعارضون خفية دعوة للعصيان المدني اذ يترددون على المحلات التجارية ناصحين أصحابها بان يقفلوا محلاتهم كما يقومون أحيانا بتوزيع منشورات سرية ليلا تدعو التجار وأصحاب الورش الي الامتناع عن العمل الا ان الظروف المعيشية التي تزداد صعوبة و استمرار الأزمة أطول مما توقع الكثيرون دفعت بالناس إلى العودة التدريجية إلى أعمالهم فعادت بعض المقاهي للعمل وزاد عدد الصيدليات العاملة في طرابلس.
مصطفى فيتوري - طرابلس
مراجعة: منصف السليمي
مصطفى الفيتوري رئيس قسم ادارة الأعمال باللغة في أكاديمية الدراسات العليا، طرابلس/ ليبيا.