مكبات النفايات في غزة.. مصائد موت للأطفال ومصدر دخل للفقراء
٦ فبراير ٢٠٢٢عُثِر نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي على جثة الطفل أسامة السرسك (14 عاماً) وسط مكب للنفايات، بعدما أعلنت أسرته عن فقدانه قبل أن يعثر عليه عاملون بمكب نفايات شرق مدينة غزة بالصدفة إثر يوم من ذلك، وتبين أنه كان يعمل بالبحث عن أدوات بلاستيكية وصلبة يمكن إعادة تدويرها، وأثارت قضيته ومصيره ضجة كبيرة في غزة.
تبين من خلال التحقيقات أن سبب وفاة الطفل نتيجة دفنه تحت أكوام القمامة في مكب نفايات دون أن ينتبه له العاملون هناك، وكان يعمل الطفل بنفس مهنة والده الذي يبحث هو الآخر وسط النفايات عن أدوات يمكن إعادة تدويرها في غزة، وهي مهنة تتواجد بقوة خلال السنوات الخمس الأخيرة في قطاع غزة،
"مشوه بالكامل"
في هذا السياق يقول والده عرفات السرسك لـ DW عربية: "كان طفلي يرافقني صباح اليوم الذي توفي فيه داخل مكب نفايات "جحر الديك" لجمع النحاس والبلاستيك، يومها كانت الأحوال الجوية رديئة، لكن لم يمنعنا ذلك من الخروج لتوفير طعام يوم الجمعة للأسرة، وبعد ساعتين فقدت طفلي، بحثت عنه في المنطقة وبين النفايات لم أجده، ظننت أن الكلاب هاجمته وقتلته، وفي اليوم الثاني وجدوا الجثة بمظهر بشع جداً ومشوه بالكامل".
السرسك عاطل عن العمل منذ سنوات، كان يعمل عاملاً في الكثير من المهن اليومية، لكنه الظروف المعيشية قيدته في الحصول على أي فرصة عمل، وهو أب لخمسة أطفال، أكبرهم كان أسامة، وينوه إلى أنه يعمل فيها منذ أكثر من أربع سنوات من أجل جمع النحاس والألمونيوم والبلاستيك وليس له مصدر دخل آخر، وينتظر السرسك النتائج التي ستعلن عنها لجان التحقيق في حادثة ابنه لأنه يحمل المسؤولية لعمال بلدية غزة في مكب النفايات بالمسؤولية.
مشاجرات
عبرت بلدية غزة التي تشرف على مكب النفايات الأكبر في قطاع غزة في المنطقة الشرقية عن أسفها عن الحادثة، وأعلنت عن تعاوننا الكامل مع تحقيقات النيابة العامة للوقوف على ملابسات هذه الحادثة. لكنها حاولت منع العاملين في هذه المهنة عقب حادثة الطفل فصدمت بمشاجرة مع أصحاب هذه المهن في اليوم التالي، كما يقول عضو المجلس البلدي في بلدية غزة مروان الغول في حوار مع DW عربية.
يرى الغول أن العمل في النبش وسط مكبات القمامة التابعة للبلديات وكذلك وسط حاويات النفايات في الشوارع أصبحت كارثة في قطاع غزة ومنتشرة بكثرة خلال الخمس أعوام الأخيرة، اضطرت البلدية على إثر حادثة الطفل السرسك منع الاقتراب من نفس المَكَبّ الذي وقت الحداثة فيه لكن نشبّ شجاراً بين العاملين بالمهنة وموظفو البلدية.
مهن محفوفة بالمخاطر
ويبقى ازدهار مثل هذه المهنة المحفوفة بالمخاطر في غزة مرتبطاً بطبيعة الحال بارتفاع نسب الفقر في القطاع وصعوبة الظروف المعيشية. في هذا السياق يوضح الغول بالقول: "دفعت الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع نسب الفقر في قطاع غزة الكثير من الناس للقبول على مهن خطيرة على سلامتهم مثل هذه المهنة".
ويضيف عضو المجلس البلدي في بلدية غزة مستطرداً: "لا يملك غالبيتهم الوعي في الأضرار المستقبلية، فهم يتطلعون لتأمين حاجياتهم اليومية أو الشهرية وحسب"، ما دفع المسؤولين في بلدية غزة، وهي الأكبر في قطاع غزة من حيث الخدمات والمساحة، إلى "دراسة حلول عاجلة للمشكلة لردع الخطر عنهم".
أطفال وأرباب أسر في المهنة
الطفل شرف في ربيعه الثاني عشر ورفيقه يزن (13 عاماً) - أسماء مستعارة- يعملان في نبش النفايات بين الشوارع في مدينة غزة. في كل صباح يخرجان لجمع البلاستيك والمعلبات البلاستيكية أو أي قطع معدنية أخرى.
ليسا وحدهما في أسرتيهما اللذان يعملان في هذه المهنة، إذ أن أشقاءهم الذين يكبرونهم يعملون كذلك في نفس المهنة أيضاً، فوالد شرف من ذوي الإعاقة ومقعد في المنزل. أما والد يزن فلا يعمل وهو رهين لمرض السكري الذي تسبب ببتر ساقه.
يقول شرف إنه في كثير من الأحايين يحاول الناس وبعض عمال النظافة منعه هو وزين من جمع البلاستيك أو زجاجات المشروبات الغازية أو النحاس، لكنه يقوم بالاختباء قليلاً حتى يعود للحاويات ويجمع منها، ليتوجه لوضعها في عربة يقودها شقيقه الأكبر لنقلها لأحد المصانع بغية إعادة تدويرها، ويحصل هو ويزن في اليوم على 20 شيكلاً (نحو: 6.30 دولارات) إن جمعوا كمية جيدة من الأدوات، ليشاركا أسرتيهما في مصاريفها المنزلية.
"لا أريد التسول"
في المقابل يرفض سمير أبو سارح (42 عاماً) الكف عن الذهاب لمكبات النفايات بشكل يوميّ كما يقول في حديثه مع DW عربية، فهو يعيل أسرته المكونة من سبعة أبناء، وفقد عمله في الحدادة قبل خمس سنوات، ويجمع يومياً ما يسد رمق أبنائه من خلال المهنة التي يتحصل منها بشكلٍ يوميَ ما بين 20 إلى 30 شيكلاً (نحو 6.30 إلى 9.40 دولارات).
ويقول أبو سارح موضحاً: "لا أحد يُحِب العمل بمهنة بين النفايات والرائحة الكريهة، لكني لا أريد التسول لأن في غزة كلنا أصبحنا فقراء، أعجز كأبّ على توفير طعام وخبز في بعض الأيام، عندما اتجهت لهذه المهنة بالبداية كنت اخجل الظهور، لكن اليوم لم أعد أخجل من مهنتي هذه. لا أحد يستطيع منعي من البحث في القمامة. إذا أراد المسؤولون منعنا، فعليهم أن يوفروا لنا عملاً جيداً. أنا لا أريدها بالأصل، لكني لا أريد جوع أطفالي أيضاً".
مهنة تفشي الأوبئة
يعتبر رئيس المعهد الوطني للبيئة والتنمية بغزة الدكتور أحمد حِلِس أن مهنة النبش بين النفايات مشكلة كبيرة ومعقدة في كل الدول النامية، وتتداخل فيها عدة مشاكل، "في ظل أن العامل فيها يتعامل مع كل أنواع النفايات، منها الصلبة والسَامة والكيميائية والفيزيائية وتَحمل ميكروبات وجراثيم وعناصر ثقيلة". ويضيف الدكتور حِلِس أن العاملين فيها يعتبرون غيرُ مؤهلين على التعامل مع هذه النفايات، ومنهم الأطفال، وهو "انتهاك صارخ في حقوقهم".
ويقول في حديثه لـ DW عربية: "العاملون في هذه المهنة يمكن أن ينقلوا أمراضاً كثيرة لمحِيطهم المنزلي، فهم يعملون في أي مكان تواجد النفايات بالطرق والشوارع والقرى والمدن. النبش ينشر القمامة أكثر ويشجع على انتشار القوارض والقطط والكلاب التي نعاني منها حالياً في غزة وهي ناقلة للأمراض والأوبئة".
تتم إعادة تدوير النفايات في قطاع غزة بطرق بعيدة عن الرقابة اللازمة كما يرى حلس، ويضيف موضحاً: "بيئة غزة تتعرض لكل ما هو مضِر من متفجرات الحروب والمياه الملوثة وكذلك القمامة المضرة، لا توجد إمكانيات لإعادة تدوير النفايات من أجل إنتاج غاز حيوي، ولا وعي كافي ودعم لعمل مشاريع بيئية. نريد خطة وطنية شاملة باتجاه القوانين والقرارات والتوعية المجتمعية حتى ننهض لمعالجة المشاكل البيئية".
لكن من جانب آخر شُكلت عدة مبادرات لاحتواء هذه الفئة من العاملين، لكنها لم تستمر لحقبة زمنية أطول ولم تنجح في تحقيق كل أهدافها، كما ينوه حلس. إذ قدمَّ اقتراحًا للبلديات لجمع العاملين بالنبش مقابل تخصيص زي يحميهم، مع تدريبهم على تصنيف الأدوات في النفايات، وأن يكونوا ضمن فريق يتبع للبلديات لضبط عملهم مع ممارسة النظافة الشخصية اليومية. لكنه لم يتلق أي رد "نتيجة عدم تطبيق سيادة القانون والضمان الاجتماعي"، كما ينوه.
وحسب معلومات المركز الوطني للبيئة والتنمية فإن قطاع غزة ينتجُ 2150 طناً يومياً من النفايات الصلبة، أكثر من نصفها يذهب لمكب "جحر الديك" شرق مدينة غزة، إذ يستقبل يومياً نحو 1200 طن من مدينة غزة وشمال القطاع ومخيمات وسط قطاع غزة ولمكب نفايات "وادي السلقا" الواقع في شرق مدينة دير البلح وسط قطاع غزة ومكب "صوفا الفخاري" بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة. 60 بالمائة من هذه الأطنان من المواد العضوية التي تبعث رائحة كريهة، و16 بالمائة مواد بلاستيكية، فيما يشكل الورق والحديد والنحاس والألومنيوم نحو 30 بالمائة منها فقط.
أمجد ياغي - غزة