يوميات سورية ـ موسم الهجرة إلى المجهول...!!
٢٣ أغسطس ٢٠١٢منذ اندلاع الاحتجاجات في سورية منتصف آذار/ مارس من العام الماضي، وبوابات المسافرين في مطارات البلاد ومنافذها البرية تعج بالمغادرين بدءاً من رجال الأعمال وأصحاب الأموال مروراً بالنخب الثقافية والفنية من المعارضين أو حتى ممن اختار سياسة النأي بالنفس إضافة إلى المئات من الناشطين والناشطات الذين وجدوا في السفر فرصة للهروب المؤقت من اعتقال محتوم إلى حرية مفترضة.
من جهة أخرى، ومع تصاعد وتيرة الأعمال العسكرية والعنف في الشهور الأخيرة في عدة مدن سورية، اضطر الكثير من السوريين إلى النزوح من ديارهم إلى الدول المجاورة ليتجاوز عدد اللاجئين السوريين للدول المجاورة عشرات الألوف، حسب آخر إحصائية للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
ولم يعد مشهد السوريين المسافرين خبراً جديداً حتى في نشرات الأخبار العالمية، إلا أن اللافت حقاً في هذه الأيام هو احتشاد المئات من المواطنين شيوخاً وشباباً رجالا ونساء أمام مديرية الهجرة والجوازات في منطقة البرامكة، وسط العاصمة السورية لاستصدار جوازات سفر وتجديدها، هرباً من أصوات القصف ورائحة البارود والأوضاع المعيشية المتردية ولكن وجهات السفر تبدو في معظمها مجهولة.
"لا أعرف بعد إذ كنت سأسافر أم لا... ولكن الحصول على جواز سفر لم يعد أمراً ثانوياً اليوم"، يقول أنس (33 عاما) وهو يلصق طابعاً رسمياً على استمارة طلب إصدار جواز سفر. 420 كيلو متراً هي أقصى مسافة ابتعد فيها أنس عن مدينته ليقضي بضعة أيام في مدينة اللاذقية مع عروسه قبل عامين. أنس الذي لم يفكر يوماً في مغادرة البلاد يقف اليوم في طابور طويل أمام مديرية الهجرة والجوازات لاستصدار وثيقة السفر لأول مرة في حياته. "غادرت منزلي أنا وزوجتي في ضاحية قدسيا إلى منزل أهلي في حي الميدان قبل نحو شهرين، واليوم اضطر أهلي لترك منزلهم في الميدان ليستأجروا منزلاً صغيراً في المزة ولا أحد يعلم أين ستكون وجهتنا القادمة إذا استمر الوضع هكذا"، يقول أنس وهو يتقدم بضع خطوات للأمام.
"لم يعد لنا مكان هنا"، تقول هنادي بدورها وهي تأخذ مكانها في طابور المنتظرين على رصيف المديرية. تراجع أوراقها الثبوتية متأملة الصورة الشخصية لطفلها الرضيع الذي ترغب باستصدار وثيقة سفر له "عدت مع زوجي وطفلي البكر قبل عامين من السعودية، لم نهنأ بعد بافتتاح عيادته السنية عندما بدأت الاشتباكات في منطقتنا. أغلق زوجي العيادة وغادر مجدداً إلى السعودية على أمل أن يتمكن من استصدار إقامة جديدة لي ولطفلينا فنلتحق به بأسرع وقت".
حال أنس وهنادي قد يشبه حال الكثير من السوريين الذين باتوا بين ليلة وضحاها خارج منازلهم وأعمالهم وبعضهم صار خارج بلادهم. ولكن إذا كان الحصول على جواز سفر لا يتطلب أكثر من يومين من الإجراءات الرسمية الروتينية قبل عام ونصف، فإنه يبدو اليوم أشبه بالمهمة المستحيلة مع احتشاد المئات وتدافعهم أمام مبنى مديرية الهجرة والجوازات بصورة يومية.
"كانت المدة الأقصى لاستصدار جواز سفر جديد يومان ويوم واحد لتجديد القديم"، يخبرني صاحب أحد المكتبات الملاصقة لمبنى المديرية. الرسوم لم تتغير 1800 ليرة سورية مع الطوابع والإكراميات، ولكن هذه الأخيرة "الإكراميات" تضاعفت على حد قوله، فمن يرغب بالحصول على جواز سفر خلال يومين عليه أن يدفع أكثر. وعندما استفسرت عن مقدار هذا الأكثر رفع أصابع يديه العشرة في وجهي وقال "على أقل تقدير"، والذي لا يدفع سألت أنا، فأجابني "فلينتظر عشرة أيام و ربما أكثر".
بعد حوالي الساعة والنصف، تمكنت بصحبة هنادي من دخول المبنى وأنا في داخلي أشكر ربي أن صلاحية جواز سفري مازالت سارية المفعول لعامين قادمين. الحال في الداخل لا يختلف كثيراً عن الحال في الخارج سوى أن الطابور لم يعد يأخذ شكل الخط المستقيم. فالمراجعون يتكدسون في ممرات البناء الضيقة وعلى الأدراج الواصلة بين الطوابق الثلاثة ويتزاحمون أمام مكاتب الموظفين الذين كلوا وملوا من طلب تنظيم الطابور تارة بالرجاء وتارة أخرى بالصراخ. "المكان ضيق ولا يتسع لكل هذه الأعداد"، يشرح أحد الموظفين سبب الازدحام والفوضى لأحد المراجعين الذي يقدم له بدوره سيجارة في محاولة ربما لخطب وده وانجاز معاملته بسرعة أكبر.
"المشكلة أن كثيرين من المحافظات الأخرى يتقدمون بطلبات الحصول على جواز سفر من هنا"، يهمس أحد المراجعين الشباب في أذن صديقه فيسمعهم ثالث وينفجر في الصراخ "إلى أين نذهب مثلاً؟؟ إلى المريخ يعني!! فرع الهجرة والجوازات في حلب في منطقة اشتباكات ماذا تريدون منا أن نفعل؟؟؟ نموت لنحصل على جواز سفر!!!". صوت المراجع الحلبي المرتفع دفع بأحد الموظفين إلى الصراخ مجدداً طالباً من الجميع الالتزام بالطابور الذي اتخذ شكل دائرة محيطة بالحلبي الغاضب الذي ورغم اعتذار الشابين له تابع كلامه بصوت خفيض هذه المرة للمحيطين به "حتى جوازات السفر التي تم إصدارها فعلاً في حلب تم السطو عليها ويتم الاتصال بأصحابها لبيعها لهم بمبلغ كبير". شهقات الملتفين حوله لم تكن كثيرة فمثل هذه الحوادث لم تعد غريبة على السوريين الذين يشهدون يومياً الكثير من حوادث السلب والخطف والسرقة ناهيك عن حوادث القتل والموت والدمار، لذلك سرعان ما انفضوا من حوله ليغرقوا في مراجعة أوراقهم الثبوتية وإجراء مكالمات خلوية يطمئنون فيها ذويهم أنه "راح الكتير من الانتظار ولم يبق إلا القليل".
عند خروجي من المبنى صادفت "علاء" أحد معارفي الذي طالما كان محسوداً بين أقرانه،كيف لا وهو الأول على دفعته بكلية الفنون الجميلة فضلاً عن إجادته للغتين الانكليزية والإسبانية وتمكنه من الحصول على فرصة عمل في وكالة إعلانية كبيرة فور تخرجه من الجامعة وبراتب شهري يبلغ 40000 ليرة سورية. ولكن دوام الحال من المحال، علاء اليوم يسارع في إنهاء إجراءات تجديد جواز سفره "الوكالة أغلقت أبوابها وصرفت موظفيها منذ حوالي ثلاثة أشهر، مدخراتي تقارب على الانتهاء والأوضاع تزداد سوءاً يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة". يرغب علاء بالسفر إلى بيروت ومنها إلى أي مكان في العالم يؤمن له فرصة عمل وحياة خالية من الرصاص، يقول "أعرف أني تأخرت في اتخاذ هذه الخطوة، كان عندي أمل بتحسن الأوضاع ، آمل أن لا أكون قد تأخرت كثيراً".