DW من دمشق – الخلاص من نظام الأسد أهم من كل شيء
١٨ ديسمبر ٢٠٢٤بعد ثلاثة أيام من سقوط نظام الأسد في سوريا وصلنا إلى دمشق، لم تكن زيارةً عادية لبلدٍ انهكته الحرب لنحو 14 عامًا، وانتهت بسقوطٍ سريعٍ لنظام كان يعتقد أنه لن يسقط، حتى في أفضل أحلام السوريين.
من بيروت توجهنا نحو دمشق، لم تكن الإجراءات على الحدود اللبنانية معقدة، وبعد مغادرة الحدود اللبنانية لن يستقبلك أحد سوى لوحةٍ كتب عليها: "سورية ترحب بكم".
لا أحد في مركز حدود "جديدة يابوس" من الجانب السوري، لا موظفين ولا سيارات ولا انتظار، ولا حتى بائعي القهوة المتجولين، الذين اعتادوا التنقل بين المسافرين..
غادرنا الحدود لنشاهد بعد مسافةٍ قصيرة سيارات عسكرية محترقة تناثرت على جانبي الطريق وبذلاتٍ عسكرية خلعها أصحابها على عجل قبل الهروب الأخير، كما صادفتنا دبابة تركت على جانبي الطريق. وبعد مسافةٍ ليست بقصيرة رأينا أول حاجزٍ عسكري.
أربعة شبانٍ ملتحين، رحبوا بنا بابتسامة وطلبوا منا متابعة طريقنا دون تعقيدات، وقف هؤلاء المسلحون في مكان عناصر الحاجز السيء السمعة سابقًا، الذي كان يسمى حاجز الفرقة الرابعة، والذي كان يعرف بتلقيه رشاوي من جميع المسافرين للسماح لهم بالمرور دون مشاكل.
الطريق إلى ساحة الأمويين مليء بالفرح
عند الوصول إلى "أوتوستراد" المزة، أول نقطةٍ لدخول دمشق، استقبلتنا حركةٌ هادئة نسبيًا في فترة الصباح، لكنها متوقعة لليوم الثالث لما بعد سقوط النظام.
من حيث المظهر العمراني لا شيء تغير في دمشق منذ بدء الحرب. غير ان المدينة أضحت متعبة أكثر. 14 عامًا من الحرب أنهكت الناس ويمكن رؤية ذلك في وجوههم، التي تصبح مبتسمة أكثر كلما اقتربنا باتجاه ساحة الأمويين.
في الساحة، التي كان النظام يستميت لمنع وصول المعارضين إليها، تجمع العشرات للاحتفال بسقوط نظامٍ بقي يحكمهم باستبدادية لأكثر من خمسين عامًا. ضحكات الفرح اختلطت مع الأغاني الثورية، والأعلام الجديدة احتلت بسرعة جميع ساريات الأعلام، بدلا من القديمة.
مقاتلون صغار السن نسبيًا توزعوا عشوائيًا في ساحة الأمويين، بينما انشغل بعضهم بالتقاط الصور من قبل السوريين الفرحين.
"أشعر بالتفاؤل بغدٍ أفضل"، هذا ما تخبرني به شابة سورية رسمت العلم على وجهها وحملت آخر بيدها للتلويح به بفرح، بينما تقاطعها صديقتها وتخبرني: "أشعر أني اليوم قادرة على الحلم بمستقبل أفضل، الغد أجمل بالتأكيد".
وعلى بعد أمتار وقف نور، الطالب الجامعي، مع مجموعة من أصدقائه الشبان والشابات. اقترب نور منّا وحاول التحدث معنا، فأخبرنا أنه الآن لديه أمل كبير ببناء سوريا المستقبل، ويضيف في حديثه لـدويتشه فيله (DW): "نحن كشباب لدينا أمل أن نبني سوريا من جديد. الوضع الراهن رائع مقارنة بما كنا نتوقعه، كنا متخيلين دمارا وعدم وجود مؤسسات، لكن الوضع جيد، ونحن نطلب من السلطة الجديدة الحفاظ عليه وحماية الأقليات".
لكن نور لا يخفي أيضا تخوفه من القادم ويقول: "نخاف من المستقبل، ونتمنى من السلطة أن تزيل التخوف، لكن الأهم أننا نطلب من المثقفين والعلمانيين أن يكون لهم دور ببناء سوريا وعدم ترك الساحة لطرف واحد".
كذلك تشارك سارة نور تخوفاته، لكن تخوفاتها مختلطة بأمل كبير بجهود الشباب الواعي، وترى سارة أن "الشباب الحالي لديه وعي أكبر ممن بدؤوا الثورة عام 2011، واليوم الشباب يبحث عن وطن للجميع، لكن لا يعني ذلك عدم وجود تخوف من طريقة إدارة العمليات العسكرية للبلاد حاليًا".
وتودعنا سارة ثم تلتفت لتقول: "اليوم يسمع صوتنا، عندما اعترضنا على وجود علم هيئة التحرير خلف رئيس الوزراء تمت إزالته، اليوم نحن مسموعون أكثر، لكننا لا نزال نريد حريات أكثر، أريد أن أتمكن من التعبير عن نفسي كامرأة سورية، وأن يتسنى للجميع التعبير عن أنفسهم".
صور وجثث.. وبقايا أمل
تركنا الاحتفالات في ساحة الأمويين، منتقلين إلى منطقة المجتهد، حيث تجمع المئات من السوريين للتعرف على جثث أبنائهم، التي وجدت في سجن صيدنايا . أمام المستشفى علقت صورٌ لـ 35 جثة، بينما حمل المئات من الأهالي صور أبنائهم على هواتفهم، للمقارنة بين الصور المعلقة وأحبتهم، على أمل أن يكون من فقد منذ أكثر من عشر سنواتٍ منهم لا يزال على قيد الحياة.
أما داخل المشرحة، فتوزعت الجثث التي كان بعضها مشوهًا. أُم أحمد كانت إحدى المحظوظات، إن جاز التعبير، لأنها وجدت جثة ابنها، أخبرتني باكية: "قالوا لي سنقتله ونرميه، لن تعرفي مكان جثته لتحزني، لكني بحمد الله وجدت جثته، اليوم على الأقل أعرف أين قبره، ويمكنني زيارته".
بينما خرج عديدون خائبي الأمل من المشرحة، بين الحزن لعدم معرفة أي خبر عن أحبتهم، وبين الأمل ربما بأن عدم العثور عليهم موتى، قد يعني أنهم لا يزالون أحياء.
أبو نضال كان يبكي أمام الصور، فهو يبحث عن ابنه الشاب الذي اعتقل قبل 10 أعوام عندما كان عمره 18 عامًا، أخبرنا أبو نضال أنه يتمنى أن يعرف حتى لو كان ابنه ميتا، على الأقل سيكون لديه جواب، وتابع طريقه بينما تجمع حولنا العشرات يعرضون صور أحبتهم، علّ عرضها بالصحافة قد يأتيهم بخبرٍ عنهم.
مخاوف من الانتقام أو التشدد
لا يختلف المشهد أمام الجامع الأموي عن ذلك في ساحة الأمويين، الفرح في كل مكان، لا أحد يعلم متى تسنى للسوريين طباعة هذا الكم الهائل من الأعلام الجديدة لاستبدالها بالقديمة، أو متى أمكنهم طباعة صور قائد جبهة تحرير الشام أحمد الشرع المعروف بـ"أبي محمد الجولاني" على القمصان والتذكارات.
الأغاني الثورية تصدح في كل مكان، والاحتفالات وصلت إلى داخل ساحة الجامع الأموي، لكن بالانتقال سيرًا على الأقدام نحو باب توما، تتحول النظرات إلى ترقب.
في باب توما وباب شرقي، المنطقتين اللتين تسكنهما أغلبية مسيحية، رغم الفرح بالخلاص من النظام وفساده، تتهامس الأحاديث عن المستقبل المجهول، وعن قائدٍ ملتحٍ أعلن ولائه سابقًا لتنظيم القاعدة وإن تنصل منه فيما بعد.
لا يقنع هذا التغيير الكثيرين، خاصةً من الأقليات، لذلك أوعزت الكنائس بإخفاء مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد، ودعت للاكتفاء بذلك داخل الكنائس والمنازل، رغم جميع التطمينات التي صدرت من قبل إدارة العمليات العسكرية.
ميشيل، وهو صاحب شركة لاستيراد الأجهزة الطبية، أخبرني بأنه لا يمكن إنكار خوفه، فأقاربه مثلًا كانوا يقاتلون لصالح النظام، اليوم هم خائفون من الانتقام، ويضيف الشاب الأربعيني: "لكني على الصعيد الشخصي، متفاؤل بحذر بسبب تحسن سعر الدولار، ومتفاؤل برفع العقوبات مستقبلًا، حياتنا ستصبح أفضل، وقتها لا مكان للخوف".
أكملنا طريقنا باتجاه بلدة جرمانا القريبة، على مدخل البلدة حاجزٌ رفع عليه راية الطائفة الدرزية، بينما وقف مسلحان يلبسان زي رجال الدين الدروز.
لا يختلف المشهد كثيرًا عن باب توما، لكن الحركة هنا أفضل، فقبل سقوط النظام بيوم قرر أهالي البلدة وقيادتها الدينية، تحطيم تمثال حافظ الأسد الوحيد بالبلدة وإعلان مساندة إدارة العمليات العسكرية لكن بشرط عدم دخول مقاتليها إلى البلدة، خوفًا من خلفيتهم المتشددة، على أن تبقى مسؤولية حماية المكان والتصدي لفلول النظام من اختصاص أهل البلدة.
أما خلف الأبواب المغلقة، فيختلط الفرح مع الخوف، الذي يعتبر بالغالب سيد المشهد: الخوف من مستقبل مجهول، من أحاديث عن تقسيم، وشائعاتٍ حول طلب بعض القرى الدرزية في السويداء أو جبل الشيخ الانضمام لإسرائيل، فيما يرى كثيرون أن التقسيم هو مصير سوريا، بينما يحاولون البحث عن مكانٍ آمن في أي سوريا جديدة.
سامر، شاب كهربائي، كان يعمل بحماية من بعض الضباط الكبار، ويفكر اليوم بالسفر والهروب، كما أخبرنا. ويقول سامر لـ DW: "النظام فاسد وأنا أكثر من فرح للخلاص منه، لكني أخاف اليوم على أولادي، أخشى من عمليات الانتقام، أعلم أن جميع المسلحين الذين وصلوا دمشق أرسلوا تطمينات، لكن من يضبط المسلحين الحاقدين، هناك أحيانًا مشاكل شخصية تتحول لقتل بحجة التأييد أو المعارضة، وأخشى أن أذهب "فرق حساب"، كما يقال.
سوريون صودرت أحلامهم بالسابق
في طريق العودة من جرمانا مررنا بفرع المخابرات الجوية، أحد فروع الأسد الأمنية، التي كان يختفي في سجونه غالب من يدخلها، كغيرها من سجون نظام الأسد.
على الباب كان يقف بضعة شبانٍ مسلحين، تم وضعهم لمنع الدخول ومنع اتلاف الوثائق، بعد حالة الفوضى التي عمت البلاد في أول يومين لسقوط النظام.
أحمد، الشاب العشريني، عاد إلى دمشق مع بارودته وأحلامه التي صودرت عام 2017، عندما أجبر على الخروج من دمشق صبيا في ذلك العام مع عائلته بعد التسوية التي حدثت آنذاك.
لدى أحمد أحلامٌ بعيدا عن بندقيته، فهو مثل كثيرين ممن أجبرتهم الظروف على القتال، يريد أن يجد عملًا ويؤسس أسرة بعد أن تهدأ الأمور، لكنه اليوم يخلص لمهمته الجديدة في حماية وثائق ستوصل السوريين لتحقيق العدالة والقصاص ممن ظلمهم.
لا يختلف أحمد عن مقاتلين آخرين قادمين من إدلب أو ريف دمشق أو باقي المناطق السورية، خاصة صغار السن منهم، لم يعرفوا سوريا ما قبل الحرب، فيما كان القتال يكاد يكون خيارهم الوحيد.
ومنهم عبد المقاتل، الذي ركن بندقيته جانبًا ليجري اتصالًا سمعنا منه الضحكات فقط، فاليوم انتهت مهمته تقريبًا، بحسب ما أخبرنا.
المبادرات وتوحيد الجهود
وبعيدًا عن كل تلك المشاهد، بدأت القوى المدنية في سوريا بنفض الغبار عنها، لتبدأ بأخذ دورها في سوريا ما بعد الأسد، ولتتمكن من إعلاء صوتها لعدم استئثار طرفٍ واحد بالحكم في البلاد، خوفًا من إعادة الماضي.
ففي دمشق يعمل المحامي أنس جودة رئيس حركة البناء الوطني على عقد ندواتٍ واجتماعاتٍ لمناقشة ما يمكن عمله لبناء سوريا للجميع. يخبرنا المحامي أن هناك تخوفات سياسية من طريقة إدارة السلطة حاليًا، لذلك يجب توحيد الجهود والعمل لوضع خطة انتقالية واضحة.
أما القوى السياسية الأخرى البعيدة عن النظام السابق التي التقيناها، فأبدت تخوفها من أن الشرع اليوم يقود البلاد ويصدر القرارات دون صفة رسمية، بل حتى قادة العالم يتوجهون للحديث معه دون حمله أي منصب سوى منصب "المنتصر"، وسط قلقٍ من عدم وجود خطة انتقالية واضحة.
السيدة رجاء طنجور، الناشطة النسوية التي لم تترك سوريا واستمرت بعملها رغم الضغوط خلال سنوات الحرب الأخيرة، تخشى اليوم على سوريا من سيناريو يشبه سيناريو إيران ما بعد الشاه، لكنها تؤكد مع سيدات ناشطات أخريات، ربما الفرق الوحيد الآن هو أننا نملك الساحات فسنعود للتظاهر.
بينما تقول سيدة أخرى إن الحل الوحيد ربما يكون الهجرة، في حال سيطر التشدد على البلاد.