أبناء الزواج العرفي- جزائريون مع وقف التنفيذ
١١ نوفمبر ٢٠١٨يقود الفتى "مفتاح . ش" ذو السنوات العشر، يوميًا عربته المسحوبة بدابة باتجاه حقل النخيل وقد عوّد نفسه على محادثة أقرانه عند بوابة مدرسة ابتدائية، وكله شوق للدخول إلى حجرات الدرس، لكن ذلك – في المنظور الحالي- يبقى حلمًا صعب المنال.
بقينا نترصد تحركات "مفتاح" بين الحقول مترامية الأطراف في قرية "عُقلة لرباع" والتي تبعد بنحو 70 كم عن مقر الدائرة الحضرية.
يظهرُ الفتى ضخم الجثة لكنّ جسمه لا يدل على عمره، فالأطفال هنا يتميزون بالبنية القوية والعضلات المفتولة لشدة الجهد البدني.
رغم كل المحاولات، رفض الفتى التصريح للكاميرا وعلى مَضَضْ قبل بالحديث دون الظهور، خشية اكتشاف أقرانه حقيقة ظل يطمسها لسنوات.
يقول "مفتاح" في لقاء مع DW عربية: "لم أدخل يومًا المدرسة، أحس بقهر شديد لأني أشعر بحياة غير عادية، حرمتني الظروف من أبسط حقوقي، فماذا أذنبتُ حتى يحدث لي ما حدث"، يتساءل الفتى والدموع تنهمر.
يواصل محدثنا: "مشكلتي في الحقيقة أعمق من الدراسة، فأنا لا أتوفر على وثيقة تسجيل بالحالة المدنية، وبالتالي لا أحوز بطاقة هوية، تثبت جزائريتي".
قبل نهاية المقابلة، أخذ "مفتاح" منا تعهدًا بعدم إثارة ما يكشف عن هويته مؤكدا أنّ عائلته أيضاً لا يجب أن تعرف بأول لقاء يجمعه بوسيلة إعلامية.
ضحايا الزواج العرفي في صحراء الجزائر
يدلنا مرافقنا "علي" على شاب آخر من ضحايا الزواج العرفي في صحراء الجزائر الكبرى.
بإحدى مقاهي بلدة "نقوسة" في محافظة ورقلة الجنوبية، يُقبل علينا "لخضر" 32 عامًا ويشترط علينا عدم تسجيل الحوار، ولا يمانع في سرد قصة 3 عقود من "الكفاح" لتسجيل نفسه إداريا، وفق تعبيره.
يوضح "لخضر" أن والديه تزوجا سنة 1986 زواجًا عُرفيًّا ولم يتمكنا من تسجيل عقد الزواج لدى مصلحة الحالة المدنية، وبعد 5 سنوات عن ميلاده تطلق الزوجان، ليختار حضن أمه بديلاً.
وكشف لخضر متحدثاً ل DW عربية أنّ أمه اقترنت لاحقًا بأحد أقربائها لكن هذه المرة عبر زواج قانوني، لكن مرضًا عضالاً أنهى حياتها الجديدة بعد عامين من ذلك الزواج الموثق.
دخلت حياة "لخضر" مجددا في متاهة، لا دراسة ولا علاج بالمشافي الحكومية، حسب روايته، وكان عليه أن يستعطف زوج أمه ليرأف بحاله بعدما فقد حضنها.
باشر "العم بوجمعة" إجراءات إثبات النسب في دائرة الأحوال الشخصية بمحكمة ورقلة، واضطر إلى إشهاد شخصين من كبار العشيرة على الزواج السابق للأرملة حتى يضمن تسجيل "لخضر" على نسبة والده الأصلي.
لم تكن عملية التثبت والتسجيل يسيرةً، فالإجراء استهلك 3 أعوام خصوصًا أنه تزامن مع دخول البلاد في أزمة أمنية حادة تورطت فيها جماعات إسلامية متشددة.
بعد فترة يحاول "لخضر" أن يقنعنا باستعادة "مواطنة منقوصة" لأنه ضيع الدراسة وبخاصة حلم الدخول لكلية الطب، يتنهد...يشكر الله على نعمتي العقل والصبر ويتمنى أن تحل مشكلات بقية شباب المنطقة، ويراهن على قرارات سياسية جريئة تنهي معاناة أقرانه.
العسكرية.. طريق "الوطنية المنقوصة"
تناقض فضيع يكشف عنه الوضع السائد، إذ يجد كثير من غير المنتسبين أنفسهم موضع ملاحقة أمنية بتهمة "العصيان"، لأنهم تجاوزوا سن التجنيد بالعسكرية، وسجلت الثكنات المحلية التحاق مئات الشبان الذين تفاجئهم استدعاءات التجنيد الإجباري.
يروي "محمود" ابن قرية "عقلة لرباع" أنه ذهل لفرقة أمنية تستوقفه عند حاجز ثابت بالطريق العام، وتطلب منه اظهار وثائق الهوية وحين أبلغهم بعدم حيازته الوثائق المطلوبة جرى توقيفه ووضعه رهن الحجز لمدة 48 ساعة، تبين خلالها أنه مسجل لدى الجهات المدنية دون علمه وبذلك "لم يلتحق لأداء واجب الخدمة العسكرية الإلزامية".
ويشدد "محمود" أنه أُبلغ لاحقًا بأن دخوله إلى المستشفى للتداوي جعله موضع "تثبيت" على أنه ساكن محلي بصورته وسنة ميلاده افتراضية، واتضح أن هذا الإجراء هو طريقة وزارة الدفاع الوطني لإحصاء المشمولين بالخدمة العسكرية .
ولم يخف المتحدث استنكاره لهذه الوضعية المتناقضة، فالمعنيون يجهدون أنفسهم طيلة سنوات للتسجيل بالحالة المدنية دون جدوى لكنهم يصدمون بقرارات صادرة عن جهة حكومية تُلزمهم بالتجنيد العسكري.
أرقام مرعبة للباحثين عن النسب
في حديثه مع DW عربية، يستعرض رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، هواري قدور، إحصائية رسمية بنحو 3 آلاف ولادة طفل غير شرعي، وبينها حالات ولادة ناجمة عن زواج عرفي غير مُوثق.
ويزعم هواري قدور أن هذا الرقم الرسمي فيه "مغالطة كبرى" لأن تقارير حقوقية تتحدث عن أكثر من 45 ألف حالة ولادة غير مسجلة سنويا، وفي الغالب يولد هؤلاء خارج المشافي العمومية، وبخاصة في قرى وضواحي الجنوب الجزائري.
ويبين قدور أن لجوء كثير من الأسر إلى الزواج العرفي يأتي بعد زواج غير شرعي ونتيجة حتمية لعلاقات عاطفية أو جنسية، والضحية حسب رأيه هم الأطفال لأن الواقع المعاش يؤكد الأوضاع الصعبة لهذه الشريحة من السكان فيما المجتمع كله يُدير ظهره إليهم.
ويرأس رافع منظمة حقوقية تعد لقانون جديد يضمن حقوق وحريات المحرومين من النسب في الجزائر، مع مطالبته بتعديل قانون الأسرة الذي تظهر فيه ثغرات عديدة حسب رأيه.
ويلتقي المحامي بمجلس قضاء ورقلة، إلياس قرازة، مع رأي سابقه، حين يقول إن قضية إثبات النسب أو إلحاقه من أهم المشكلات التي تعبث بالنسيج المجتمعي، بسبب غياب عقود الزواج أو الزواج الرسمي المحرر في سجلات الحالة المدنية.
ويوضح قرازة في مقابلة مع DW عربية أن "تسوية أي وضعية تتم برفع شكوى قانونية أمام المحكمة لإثبات النسب وذلك بحضور الزوجين وولي أمر الفتاة وشاهدي عدل، وبذلك يُضمن صدور حكم قضائي لثبوتية الزواج وإلحاق نسب الطفل".
ويبرز المحامي ذاته أنه أحصى حالات ميدانية لبعض المتزوجين الذين يُماطلون في تسجيل أبنائهم بدوائر الأحوال المدنية بعد 15 يومًا من الولادة، يسقط حقهم آليًّا في النسب الإداري، لكنه يقول إنها "حالات نادرة ولا يمكن مقارنتها بالحالات سابقة الذكر".
الأعراف تنسف القانون الوضعي..
يعتقد رابح أحمد أستاذ علم الاجتماع بجامعة ورقلة أن الظاهرة قبلية ومرسخة مجتمعيًا وبخاصة في ضواحي الجنوب الصحراوي، مع دعوته إلى التفريق بين الزواج العرفي الذي يتم وفق الشرع وخارج دوائر الأحوال الشخصية لأسباب متعددة، وبين الزواج العرفي الذي يتم بعد معاشرة طرفين في علاقة جنسية غير شرعية.
ويواصل : "بالطبع، فالمجتمع المحلي لا يمكنه رفض الزواج مكتمل الأركان شرعًا ولو لم يتم تسجيله لدى مصالح الجهات الرسمية، وعليه فمن غير المقبول أن نثير مسألة الرفض الاجتماعي لهذا الزواج المؤسس لعلاقات اجتماعية قوية الصلة والتماسك القَبلي".
ويربط محدثنا أسباب انتشار الأطفال ضحايا النسب، بـضعف الوعي بحجم الظاهرة وما تسببه من تبعات تعود بالضرر على حياة ومستقبل الأبناء، خاصة ما تعلق بالتعليم والحقوق المدنية والواجبات والتوظيف.
ويختم بأن "العلاقات الاجتماعية في صحراء الجزائر باعتبارها تضم مجتمعا محافظا، تحتكم إلى الأعراف التي غالبًا ما تكون أقوى وأسمى من القانون الوضعي".
الجزائر: سمير بوترعة