الاقتصاد الألماني يحلّق والمال العربي يكسب!
٩ ديسمبر ٢٠١٧على عكس مسرح السياسة الذي لا يخلو من الهزل يشهد الاقتصاد الألماني منذ سنوات معجزة اقتصادية جديدة رغم تبعات الأزمة المالية العالمية، فمعدلات النمو الحالية بحدود 2 بالمائة جيدة جدا بالمقاييس الأوروبية. وقد انخفضت نسبة البطالة إلى مستويات قياسية بحدود 5.3 بالمائة. وهناك توازن غير مسبوق في الموازنة. وبدوره يحقق الفائض التجاري الألماني الذي يزيد سنويا على 200 مليار يورو أرقاما قياسية سنة بعد الأخرى.
اليمين الشعبوي يقلق الاقتصاد
على خلاف الاقتصاد تقف ألمانيا سياسيا على عتبة مرحلة تثير القلق والمخاوف على مستقبل هذا البلد الذي يعد في طليعة البلدان الأكثر استقرارا في العالم، فلأول مرة في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الثانية يدخل حزب يميني شعبوي إلى البرلمان الألماني ألا وهو "حزب البديل من أجل ألمانيا". وتكمن المشكلة في أن هذه الحزب حقق نجاحه على حساب الحزبين الرئيسيين، الحزب المسيحي الديمقراطي وهو حزب المستشارة ميركل والحزب الاشتراكي الديمقراطي اللذين تراجعت شعبيتهما. وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة تشكيل حكومة جديدة مستقرة وسط اتحاد أوروبي بدأت دعائمه بالتخلخل مع بدء مفاوضات خروج بريطانيا منه. مثل هذه الصعوبات تعطي بالطبع إشارات سلبية لمناخ العمل والاستثمار الذي ينشد دائما الاستقرار السياسي المستدام.
الاقتصاد أقوى من مشاكل السياسة
رغم مرور أكثر من شهرين على الانتخابات الألمانية لا يبدو تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة قريب المنال بعد فشل ما يُسمى مفاوضات "جامايكا" لتشكيل حكومة تضم الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة ميركل ومشاركة كل من حزب الخضر والحزب الدميقراطي الحر. واليوم تتجه الأنظار لبدء مفاوضات جديدة لن تكون سهلة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي بهدف استمرار التحالف الحكومي الحالي بين الحزبين الرئيسيين. على ضوء ذلك يبدي محللون ورجال أعمال وخبراء خشيتهم ومخاوفهم المبالغ فيها غالبا من تأثير ذلك على الاقتصاد الألماني الذي يحلق عاليا هذه الأيام. غير أن هذه المخاوف لاتبدو في محلها في الوقت الحالي على الأقل. ويعود ذلك لعدة أسباب أبرزها أن الحكومة الجديدة المنتظرة لا تواجه تحدي القيام بإصلاحات اقتصادية عميقة، لأن هذه الإصلاحات حصلت قبل سنوات في إطار "أجندة 2010" التي جاءت بها حكومة المستشار السابق غيرهارد شرودر. الجدير ذكره أن الاصلاحات المذكورة خفضت تكاليف العمل والضمانات الاجتماعية وجعلت المنتج الألماني أكثر تنافسية في السوقين الأوروبي والعالمي. على صعيد متصل ألمانيا دولة فيدرالية لا مركزية تتمتع الولايات فيها بصلاحيات اقتصادية كبيرة، كما أنها دولة مؤسسات تتمتع بضوابط ونظم مستقلة نسبيا ولا تحتاج فيها الشركات والاتحادات والمؤسسات الاقتصادية للعودة المباشرة إلى الحكومة ووزراتها في كل شاردة وواردة.
الاستثمارات العربية تحلق عاليا
وإذا كان الاقتصاد الألماني محصن بدولة المؤسسات ولا يعبأ بصعوبات تشكيل الحكومة حتى الآن، ماذا بالنسبة للتبعات المحتملة على الاستثمارات العربية في ألمانيا والتجارة معها. فيما يتعلق بالتجارة العربية مع ألمانيا فإنها مستقرة، لاسيما وأن معظم السلع التي تصدرها الشركات الألمانية للعالم العربي هامة أو حيوية لمشاريع الطاقة والنقل والبنية التحتية وحاجات المستهلك اليومية. وتشمل هذه السلع بالدرجة الأولى مولدات الطاقة وتجهيزات قطاع الاتصالات ووسائط النقل والأغذية والأدوية وقطع التبديل والصيانة على أنواعها. أما على صعيد الاستثمارات العربية في ألمانيا فإنها تحلق عاليا مع الارقام القياسية التي يحققها مؤشر الأسهم الألمانية/ داكس. ويعود السبب في ذلك إلى أن غالبية هذه الاستثمارات التي تقدر قيمتها بنحو 70 مليار يورو على شكل أسهم في شركات وبنوك معروفة مثل "فولكسفاغن" و "مرسيدس" و "دويتشه بنك". وتشكل الاستثمارات القطرية لوحدها بقيمة 25 مليار دولار أكثر من ربعها.
تأخر تشكليل الحكومة يعكر مناخ الاستثمار
تشير توقعات معاهد البحوث الألمانية والأوروبية المتخصصة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا إلى استمرار تحسن النمو الاقتصادي في ألمانيا خلال العام القادم. وحتى الآن ليس هناك ما يشير إلى تأثيرات سلبية على الاقتصاد الألماني بسبب تأخير تشكيل الحكومة. غير أن بقاء هذه التأثيرات في منأئ عنه غير مضمون كلما طالت فترة التأخير لمدة تتجاوز الثلاثة أشهر على أساس أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. ومما يعنيه ذلك أن النمو المستدام يتطلب استقرار سياسي مستدام أيضا. وعليه فكلما تأخر تشكل الحكومة، كلما زادت المخاوف لاسيما لدى أصحاب رأس المال الذي يوصف بأنه جبان. فمزيد من التأخير يعكر مناخ الاستثمار ويجعله أقل جاذبية. وقد تهرب رؤوس أموال إلى الخارج خوف من عدم وضوح الرؤية. كما أن ألمانيا بحاجة إلى حكومة تقوم بالإسراع في اتخاذ الاجراءات التي من شأنها تخفيف العبء الضريبي عن الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وتحسين مستواهم المعيشي بشكل يسحب البساط من تحت أرجل اليمنيين الشعبويين. وهنا حاجة ماسة أيضا لوضع أسس جديدة من أجل مواجهة تحديات الهجرة واللجوء التي يتخذها اليمينيون مادة لدعايتهم المتطرفة.
وأخيرا لا ننسى أن الاقتصاد الألماني اقتصاد يعتمد على التصدير وسوقه الرئيسة هي سوق الاتحاد الأوروبي. ومن هنا فإن الحفاظ على ديناميكيته يتطلب الإسراع في تشكل حكومة ألمانية تقود إلى جانب الحكومة الفرنسية إصلاح مؤسسات الاتحاد المترهلة التي تهدد بفشله. كما أن مثل هذه الحكومة هامة جديدة لنجاح مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأقل الخسائر الممكنة.