الخارطة السياسية بعد الانتخابات الألمانية: تقاطع في الالوان والمصالح
المعركة الانتخابية بدأت عندما فقدت حكومة تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر الأغلبية في البرلمان. المستشار الحالي جيرهارد شرودر فاجأ الجميع بطرح الثقة على حكومته وطلب من حزبه التصويت على حجب الثقة عنها فاسحاً المجال لانتخابات برلمانية مبكرة هدف من وراءها الى نقل المعركة على برامجه الإصلاحية إلى ساحة الشعب الألماني على أمل أن يحصل على أغلبية تمكنه من مواصلة سياساته الإصلاحية المثيرة للنقد. و اعتبر شرودر أن الانتخابات هي الحل للبقاء في السلطة ولكن بحكومة أغلبية قوية تستطيع مواصلة برنامج الإصلاح الذي بدأت به.
من جانبها رحبت المعارضة، التي سحبت البساط من تحت أقدام الائتلاف الحاكم شيئا فشيا، بالدعوة إلى انتخابات مبكرة معتقدة أن اللحظة التاريخية قد تأتي للإطاحة بالحكومة والعودة إلى الحكم بعد سبع سنوات من النضال في المعارضة. فقدان التحالف الحاكم للأغلبية والسخط الشعبي على سياسات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي القاسية لحكومة شرودر جعلا المعارضة تعتقد أنها تستطيع تجير هذه الأوضاع لصالحها في معركتها على طريق العودة إلى السلطة.
لقد كان الاعتقاد السائد هو أن الأغلبية ناقمة على سياسة الحكومة الحالية وإنها ـ أي الحكومة ـ على وشك السقوط في أول فرصة تتاح للشعب ـ عن طريق الانتخابات طبعا ـ. على هذا الأساس أدارت المعارضة معركتها الانتخابية وحاولت أن تستفيد من نقمة الشعب على سياسة الحكومة. لكن هذه المعارضة لم يكن لديها البديل الأفضل لتقنع به الناخب لكي يصوت لصالحها. على العكس من ذلك، فقد ساعد البرنامج الاقتصادي الذي أدارت المعارضة حملتها الانتخابية على أساسة على تراجع فرص التأييد لها وارتفاع أسهم الحزب الحاكم.
انتخابات غير فاصلة
لكن الانتخابات لم تفض إلى وضوح في الرؤية ولم تساعد أي من الأحزاب على كسب الرهان لصالحة بل لقد ازدات المعادلة تعقيدا. فلا حكومة شرودر بقيت في السلطة ولا المعارضة حظيت بالأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة. فلم تساهم الانتخابات البرلمانية المبكرة في بلورة رؤية سياسية محددة في الأفق السياسي الألماني.والناخب الألماني نفسه هو الذي وضع العقدة في المنشار بدلا من فرض معادلة ممكنه.
النتائج المتقاربة جدا التي حصل عليها الحزبان الكبيران لم تفض من الناحية العملية إلى فوز أو خسارة أي منهما، الأمر الذي جعل كل من الحزبين يعتبر أن الشعب قد فوضه بتشكيل الحكومة وإدارة البلاد. ففي الوقت الذي اعتبرت مرشحة الحزبين المسيحيين الديمقراطي والاجتماعي، انجيلا ميركل، أنها الأحق بتشكيل الحكومة وفقا للأغلبية التي حصل عليها حزبها، يكابد المستشار الحالي، جيرهارد شرودر، من أجل البقاء في السلطة ويتمسك بأحقية حزبه، الذي جاء في المرتبة الثانية بفارق ضئيل، في قيادة الحكومة المقبلة. كلا الطرفين يعرفان جيدا أنهما لا يستطيعان بهذه الأغلبية الضئيلة التي حصل كل منهما عليها تشكيل الحكومة بمفرده دون الدخول في تحالفات غير تلك التقليدية التي كانت سائدة قبل هذه الانتخابات.
آفاق الخارطة السياسية
تتشكل الخارطة السياسية للأحزاب الألمانية تقليديا من تحالفات بين كل من الأحزاب اليسارية مع بعضها والأحزاب المحافظة مع بعضها. فالحزب الاشتراكي الديمقراطي يتحالف مع حزب الخضر بينما يتحالف الحزب المسيحي الديمقراطي مع رديفه المسيحي الاجتماعي والى جانبيهما الحزب الليبرالي. وتفرض نتائج الانتخابات الحالية تحالفا غير تقليديا ومختلف عن ذلك المعروف في الحياة السياسية الألمانية. في هذه الحالة يفترض أن تتفاهم الأيديولوجيات ويلتقي اليمين مع اليسار وتتقاطع الألوان مع بعضها ( كل حزب ألماني يرمز له بلون معين). يذكر أن جميع الأحزاب تقريبا قد تركت الباب مفتوحا أمام جميع الاحتمالات وبدأت في ترتيب أوراقها لكل الاحتمالات. الاستثناء الوحيد هو أن جمعيها تقريبا متفقة ضمنيا على عدم الدخول في أي تحالف مع اتحاد اليسار الجديد.
السيناريو الأول: "تحالف جامايكا"
ويتكون من الحزبيين المسيحيين الديمقراطي والاجتماعي (اللون الأسود) وكل من الحزب الليبرالي (اللون الأصفر) وحزب الخضر الذي يرمز له باللون الأخضر. هذا النوع من التحالف تطلق علية وسائل الإعلام "تحالف جامايكا" نظرا لان الألوان التي يرمز بها للأحزاب التي ستدخل فيه تشكل في مجموعها علم دولة جامايكا.
السيناريو الثاني: تحالف "اشارة المرور"
وهناك سيناريو لتحالف يطلق علية تحالف "إشارة المرور" بين كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (الاحمر) والحزب الليبرالي (الأصفر) وحزب الخضر. وتشكل الألوان التي يرمز بها لهذه الأحزاب ألوان اشارة المرور، ومن هنا جاءت التسمية
السيناريو الثالث: "التحالف الكبير"
أما السيناريو الأخر فهو أن يتحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي مع الاتحاد المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي وقد تشترك معهما أحزاب صغيرة أخرى في ما يعرف بـ" التحالف الكبير". الصعوبات الآنية لقيام مثل هذا التحالف تتمثل في إصرار كل من الحزبين الكبيرين على الاحتفاظ بمنصب المستشار. وحتى في حالة ما إذا تم تجاوز هذه المشكلة فقد تكون الحكومة القادمة المشكلة من تحالف من هذا النوع غير متناغمة بالشكل المطلوب لان كل منهما يملك النصاب اللازم من الاصوات في البرلمان لعرقلة خطط الأخر وكل منهما لا يملك الأغلبية اللازمة التي تمكنه من إتخاذ القرارات دون اللجوء إلى الحلول الوسط.
الكرة في ملعب الرئيس الألماني
عندما اتخذ الرئيس الألماني هورست كولر قراره بحل الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد طرح الثقة عليها، كان قد برر ذلك بان المصلحة العامة استدعت منه ذلك. القرار بالنسبة لكولر لم يكن سهلا من الناحية العملية. لذا فقد خاض نقاشات مطوله واستند إلى استشارات قانونية. والآن تعود الكرة مرة أخرى إلى ملعبه في ظل تنازع كل من انجيلا ميركل وجيرهارد شرودر على منصب المستشار. الخبراء القانونيون يعتقدون أن دور الرئيس في هذه اللحظة حاسم في تكليف من يراه مناسبا لتشكيل حكومة على أرضية الأولوية للاستقرار السياسي للبلد.
إعادة الانتخابات أو انتخابات مبكرة؟
عملية إعادة الانتخابات غير مطروحة في الوقت الحالي. وهي بطبيعة الحال عملية معقدة من الناحية الدستورية. غير أن اللجوء إلى مثل هذه الخطوة إن حدثت سيكون بالتأكيد الحل الأخير وبعد نفاذ جميع البدائل المتاحة. وهناك احتمال آخر وهو أن تتشكل حكومة ائتلافية هشة وغير متناغمة وربما متناقضة الاتجاهات مما قد يفضي في نهاية المطاف إلى حدوث أزمة سياسية تستدعي إجراء انتخابات مبكرة قبل انقضاء فترة الأربع سنوات كما حدث لحكومة شرودر.
د. عبده جميل المخلافي