السوريون في ألمانيا - هل ما يجري في بلدهم ثورة شعبية أم مؤامرة دولية؟
٢٦ سبتمبر ٢٠١٢
كثيراً ما يلوّح السوريون، المقيمون في ألمانيا، بالرفض سريعاً حين يُطلَب منهم الحديث عن الوضع في وطنهم. عدد قليل جداً منهم فقط على استعداد للتحدُّث بحرية - ويعود سبب ذلك في كثير من الأحيان إلى الخوف من المخابرات السورية، التي لديها شبكة عُملاء سِريّة حتى في ألمانيا، ومهمتها التجسس على أعضاء المعارضة في المهجر أو المنفى.
"الرجاء عدَم ذِكْر لقَبي وعدم القيام بتصويري"، هذا ما قالته نادية، البالغة من العمر 53 عاماً والمنحدرة من مدينة حلب، وهي تعيش منذ 23 عاماً في ألمانيا. وحتى خلال إقامتها في هذا البلد الغربي فإنها لا تشعر بالأمان. وحين كانت نادية لا تزال تعيش في سوريا كان حافظ الأسد، والد الرئيس بشار الأسد، لا يزال المُمسِك بمقاليد السلطة آنذاك.
وأيضاً في ذلك الحين لم يكن يستطيع أي أحد التعبير عن رأيه بحرية في سوريا، كما تقول نادية، وتتابع: "ولم يكن هناك حرية للتعبير. وتحت حكم حافظ الأسد، كُنّا نشعر بالخوف. المخابرات كانت موجودة في كل مكان. وإذا عبَّر أي شخص عن رأيه بشكل مناهض للنظام الحاكم فإنه كان يتم اعتقاله على الفور". والعكس صحيح، فمَن كان يتخلّى عن قول رأيه بصراحة كان يحصل على عمل ويرتقي في حياته الوظيفة. "لكننا، نحنُ أبناء الطائفة السُّنّية، كُنَّا محرومين بشكل مُمَنْهَج من ذلك"، والكلام لنادية.
الصدمة المتكررة في مدينة حماة
بلغَ هذا التمييز والحرمان ذروته إبّان انتفاضة جماعة "الإخوان المسلمون" في حماة. وهو التمرُّد الذي سحَقَه حافظ بدموية عام 1982. وتشير التقديرات إلى مقتل ما يقارب 30 ألف شخص في تلك الأحداث. وبعدها خيَّم ما يشبه هدوء المقابر على البلاد.
ولكن، منذ بدء أحداث انتفاضة تونس تَشَجَّع شعب سوريا من جديد ونزل المواطنون السوريون في مظاهرات احتجاجية إلى الشوارع. شعَرَت نادية بالسُّرور فَوْرَ معرفتها بانتفاضة تونس، وشَرَعَت تناقش الموضوع مع عائلتها قائلةً: "وأخيراً بدأت دولة عربية بالانتفاضة ضد حاكمها الدكتاتور". وتضيف :"لقد تمنَّينا ذلك لأنفسنا كذلك. ولكن ها هو العُنْف يعود للظهور مُجَدَّداً". فالكثير مما يحدث حالياً في سوريا يُذكِّر بمذبحة حماة السابقة.
محمد البالغ من العمر 27 عاماً ينحدر أيضاً من مدينة حلب مثل نادية، وهو يدرُس الفن منذ عامين في ألمانيا، ولا يزال يتذكَّر بوضوح الأيام الأولى للاحتجاجات في بلاده. ويقول: "في البداية، كنتُ أعتقد أن ذلك مستحيل في سوريا. لأن الجميع كانوا يشعرون بالخوف". ولكنْ حدثَت المظاهرات في تونس وبدأ شبيبة درعا وشبابها يكتبون الشعارات المناوئة للنظام بالبخّاخات على الجُدران. لكن سُرعان ما تم اعتقال أولئك من قِبَل قوات الأمن وجرى احتجازهم لعدّة أيام.
تتضارب التقارير في حقيقة ما جرى بعد ذلك. وتوجد روايتان لما حدث. إحداهما رواية النظام والأخرى رواية الناشطين المعارضين. الرواية الرسمية للنظام تتَّهم أولئك الشبيبة، وفي مقدمتهم حمزة الخطيب البالغ من العمر 13 عاماً، بالسعي لاغتصاب نساء جنود الجيش. وترُدّ نادية على ذلك وهي مصدومة بذهول قائلةً: "هؤلاء لم يكونوا إلاّ أطفالاً! ولم يكونوا يريدون إلحاق الضرر بأي أحد. ولم تَصدُر عنهم إلا شعارات الديمقراطية والحرية فقط!". وتقول إنه من أجل حماية المدنيين تَمّ بالتالي تأسيس الجيش السوري الحر بأعضائه من الجنود المُنْشَقِّين، الذين بدأ جيش النظام بملاحقتهم وإطلاق النار عليهم
إعلان الأسد الحرب على شعبه
لكن وجهة نَظَر محمد لا تتفِق مع الرواية الرسمية للسلطات السورية، فمحمد يقول: "في هذا الحادث كَشَف النظام عن وحشيته. لقد تمّ اعتقال حمزة الخطيب. وبعد أسبوع كان بإمكان أسرته أخذ جثته، بعد أن تمّ قَطْع عُضْوه الذََّكَري وإطلاق النار على رأسه". وشكَّل قتل حمزة الخطيب نقطة تحول غيّرَت موقف الكثيرين من المتظاهرين.
كان محمّد وأصدقاؤه حينها في انتظار استجابة بشار الأسد لِمَطالب الإصلاح السياسي، ويقول محمد بهذا الشأن: "لو كان بشار الأسد أكَّد على أنْ يتم التحقيق في الحادث، ولو كان أعلنَ إجراء انتخابات جديدة وإلغاء قانون الطوارئ لكانت أيَّدَتْه أغلبية المتظاهرين على الأرجح. ولربما كنتُ أنا أيضاً أيّدتُه كذلك". ولكن، هل كان الأسد يمتلك القدرة على السماح بالاحتجاجات، بدلاً من قمعها؟ "بالتأكيد، نعم"، يجيب محمد، ويضيف: "لقد كان من غباء وغطرسة الأسد أن يقوم منذ البداية بوصف المحتجين بأنهم إرهابيون".
ولكن هل كان المتظاهرون يأملون في أن يُحقق الأسد الإصلاح، كما كان الغرْب يفترض في البداية؟ يجيب محمد: "نعم. كُنَّا نأمُل في ذلك. ولكن هل يمكن تصَوُّر قمع المظاهرات الاحتجاجية بهذه الطريقة وبهذا الشكل الدمويّ والعنيف؟"، ويتابع قوله بأن الصراع تصاعدَ بالتالي تدريجياً. وبدأ الجيش السوري الحر يرُدّ بهجمات على إرهاب ميليشيا الشبيحة الموالية للنظام. "وخصوصاً في مدينة إدلِب: كان إرهاب الشبيحة هو الأسوأ"، يضيف محمد مؤكِّداً على عبارته.
أما حسَن، الطالب المنحدِر من بلدة علَوية مجاورة، فهو يناقِض هذا الوصف بشِدّة. كما أنه لا يَحمِل أي تعاطُف مع الثورة. ويعبّر عن رأيه قائلاً: "المقاتلون، المُنتَمون إلى ما يسمى بالجيش السوري الحُر، هم بالنسبة لي الإرهابيون الحقيقيون، ولهم صِلات بتنظيم القاعدة". ويضيف: "هؤلاء السلفيون لا يريدون الديمقراطية!". ويقول حسن إنه لا يزال من أنصار بشار الأسد، تماماً كما كان في السابق، ويتابع كلامه مُسْتَطرِداً: "كل ما يُنشَر حول ارتكاب أعمال وحشية في سوريا ليس إلاّ مُجرّد أكاذيب، تنشرها وسائل الإعلام الغربية".
أنصار النظام يرون أن أعضاء الجيش السوري الحر ليسوا مقاتلين من أجل الحرية. كما أنهم يرون أنه ليس هناك أصلاً ثورة ضد الأسد، بل إن هناك "مؤامرة خارجية" لزَعْزَعة استقرار سوريا. ويضيف حسن: "إنهم لا يريدون تحقيق السلام، بل الفوضى فقط، لتدمير المِحوَر الشيعي: إيران وسوريا وحزب الله". ويتابع قوله: "إنها نكتة بالفعل أن تطالب المملكة العربية السعودية بالديمقراطية لسوريا، في حين أنها تضطهد الشيعة، فيما لا يقول الغرب أي شيء حِيال ذلك".
الخَطَر السلفي
تدرُس فدوى البالغة من العمر 22 عاماً العلوم الإسلامية في ألمانيا. وهي ترى أن آراء أنصار الأسد، الموجودين في كل جامعة، بما فيها جامعات ألمانيا أيضاً، هي أراء غير قابلة للصمود، وتقول إن "انتفاضة التغيير يدعمها الشعب السوري بأكمله وإن هناك علَويين ومسيحيين مناهضين للأسد أيضاً". لكنها تُقِرّ بأن السلفيين باتوا نشِطين حالياً في سوريا أيضاً.
وتضرِب نادية حول ذلك مثلاً من مدينتها حلب، وتذكُر اسم وَحْدة قتالية هناك، وتقول: "يوجد في حلب 'لواء التوحيد'، الذي ينضوي تحته بعض الإسلاميين، لكنهم لا يلعبون إلا دوراً ثانوياً بصورة عامة. أما الدور الرئيسي فتقوم به مجموعات الطلاب وغيرهم من النشطاء الآخرين". فدوى تعتقد بإمكانية وجود سلفيين ونشطاء من تنظيم القاعدة في أوساط الثوّار المسلحين، وتضيف: "ولكن تم القبول بهم من أجل إسقاط الأسد فقط. أما بعد سقوطه، فلن يرضى بهم أحد، فالسوريون ليسوا بأغبياء".
وعلى الرغم من أن محمد يُؤَيّد الثورة، غير أنه يرى الأمر بشكل مختلف، ويقول: "السلفيون في حلب نُشَطاء جداً ويسيطرون على لواء التوحيد في حلب". ويتابع كلامه: "صحيح أنني مع إسقاط النظام، ولكني أيضاً ضد السلفيين، وأعتقد أن غالبية السوريين يفكِّرون كما أُفكِّر أنا". ويقول بنبرة أكثر تحديداً: "لقد شَنّ الشبيحة والمستفيدون من النظام من خلال أعمالهم القاسية حرباً تَتَلوَّن بلون الطائفية. وفي كثير من الأحيان لا تكون الحرب سوى مواجهة يقوم بها الشيعة والعلَويون ضد السُّنَّة".
لكن محمد متأكِّد كذلك من أن الكثيرين من الشيعة والمسيحيين لا يدعمون الأسد إلا بدافع الخوف، ويقول: "لي صديق شيعي، وقد قال لي: 'سيتم إرسالنا، نحن الشيعة، إلى إيران إذا سقط الأسد!'، وحتى معارِفي من المسيحيين يخافون مما قد يحدث".
حَسَن يخاف من مستقبل لسوريا دون بشار الأسد وحزب البعث، ويقول: "إن الإرهابيين يريدون ارتكاب مجزرة في حق جميع العلويين. بالتأكيد أن هناك أغلبية علَوية داخل الجيش، ولكن يوجد فيه أيضاً مسيحيون وسُنَّة". صحيح أن حسَن يرغب في "أن يعيش الجميع معاً بسلام من جديد، كما كانوا من قبل"، ولكنه يريد أن يتحقق ذلك في ظِل حكم بشار الأسد، "الذي لم يتمكن من تنفيذ إصلاحاته بسبب الإرهابيين"، على حدّ تعبير حسن.
طريق الديمقراطية المُمتلئ بالعقَبَات
أما بالنسبة للمستقبل، فمعظم السوريين في ألمانيا متَّفقون حوله، ويقول جُلُّهم في هذا الصدد: "نريد الديمقراطية!". ومن المثير للاهتمام هنا ملاحظة أن الجميع يتحدثون عن الحرية والتعايش السلمي، سواء أكانوا من معارضي الأسد أو من المؤيّدين له. تتفّق فدوى أيضاً مع ذلك، وتقول: "أريد ديمقراطية حقيقية تتمتع بحرية التعبير، بحيث يُمكِن للمرء توجيه انتقاداته دون أن يُعتَقَل ودون أن يتم احتجازه، ولكن الأهم الآن أولاً وقبل كل شيء: هو تَنْحِيَة بشار الأسد".
ولكن هل من الممكن إقامة الديمقراطية في بلد مثل سوريا؟ ليس من السهل على محمد الإجابة على هذا السؤال، وها هو يقول: "أنا لا أريد دولة الحزب الواحد، ولا دولة السلفيين. بل إنني أريد نموذجاً لسوريا: يعيش فيه السُّنّة والشيعة والدروز والعلويون والمسيحيون جنباً إلى جنب، ويتمتع فيه الجميع بالمساواة في الحقوق. وينبغي أن يكون لكل شخص فيه الحق في أن يصبح رئيساً، بغض النظر عن طائفته التي ينتمي إليها". ويُتابع مُحمد كلامه: "من الصعب جداً في سوريا أن تتحقق ديمقراطية على النمط الغربي، ولكن من الممكن بالتأكيد إقامة ديمقراطية شبيهة بتلك التي في تونس، أو ربما كتلك التي في تركيا"
فابيان شميدمايَر
ترجمة: علي المخلافي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012