الصراع بين حزب العدالة والتنمية والجيش التركي: انحسار "دولة الجنرالات" وأفول زمن الانقلابات
٦ مارس ٢٠١٠لقد راقبونا طوال عقود وتنصتوا علينا وجمعوا المعلومات عنا في ملفات. كل من ترتدي زوجته حجاباً ويتبنى آراء محافظة كانت تحوم حوله الشبهات وكان اسمه يسجل في قائمة. لقد ولى زمن ذلك وانقضى. الآن نحن الذين نمسك بزمام السلطة. الآن سنتولى نحن أمرهم"، عندما صرح أفني دوغان، النائب عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بهذه الكلمات علناً مؤخراً، دقت كلماته أجراس التحذير لدى قيادة الحزب. تم توبيخ دوغان، وصرح متحدث باسم الحزب بأن كل ما تفعله الحكومة لا يستهدف الثأر بأي حال من الأحوال، بل تطبيق القواعد الديمقراطية.
رغم ذلك فإن كلماته كانت ترن بين الحين والآخر في أذن جزء كبير من الأتراك طيلة الأسبوع الماضي. لقد تحركت وحدات خاصة من الشرطة في كافة أنحاء الجمهورية التركية لاعتقال عدد من جنرالات الجيش وضباط من ذوي الرتب العالية، سواء من الذين ما زالوا يخدمون في الجيش أو الذين أحيلوا إلى التقاعد.
كابوس بالنسبة للجيش
في حملة ليس لها مثيل حتى الآن في تركيا تم إلقاء القبض على 49 "باشا" من "باشوات" الجيش، ومن بينهم كل من شارك في أركان الحرب تقريباً خلال عامي2003 و2004. غير أن ذلك لم يكن سوى البداية فحسب. فبينما عقدت الصدمة لسان رئيس أركان الحرب الحالي، إلكر باسبوغ – الذي لم يكن على ما يبدو قد أحيط علماً بخبر الحملة – فقد بدأ الجنرالات يتوافدون واحداً بعد الآخر على قاضي التحقيقات على مرأى من الرأي العام. وجهت إليهم كلهم تهمة الاشتراك في التخطيط للقيام بانقلاب على حكومة إردوغان. لزعزعة استقرار البلاد كان من المخطط – حسبما يُقال – تفجير مسجد وإسقاط مقاتلة فوق بحر الأجيس ثم إلصاق التهمة باليونانيين.
منذ عقود والجيش التركي يسيطر على مقاليد الأمور في البلاد (منذ 1960 قام الجيش بأربعة انقلابات لإزاحة الحكومة المدنية)، غير أنه الآن أصبح في موقع دفاع بعد موجة الاعتقالات الأخيرة والدعاوى القضائية العديدة وبعد مرور أيام على الاعتقال اجتمع رئيس أركان الحرب باسبوغ ورئيس الدولة عبد الله غول ورئيس الوزراء رجب طيب إردوغان. في أعقاب الاجتماع أكد باسبوغ أن الجيش سينصاع بالطبع إلى حكم القضاء، وكمكافأة له على ذلك تم – بصورة مؤقتة - إطلاق سراح ثلاثة كانوا حتى ذلك الحين يحملون أعلى الرتب. ولكن ذلك لا يعني على أية حال نهاية الكابوس بالنسبة للجيش.
ففي يوم الجمعة الماضي شُنت موجة جديدة من الاعتقالات، وفي مطلع هذا الأسبوع تحتم على باسبوغ أن يعترف علناً بأن خطة انقلاب أخرى تم إعلانها قبل فترة لم تكن – على خلاف ادعائه حتى الآن – تزويراً، بل لقد تم وضعها على ما يبدو بالفعل في أروقة قيادته.
علاقات مع الرابطة السرية "إرغينيكون"
منذ ذلك الحين والجيش يجد نفسه في طريق مسدود. نحو أربعين من كبار الضباط يقبعون في السجن بعد حملة الاعتقال في الأسبوع الماضي. إضافة إلى ذلك هناك جنرالات سابقون ألقي القبض عليهم في عامي 2007 و2008 في أعقاب ما سمي بتحريات إرغينيكون. وإرغينيكون هو الاسم المستعار لرابطة سرية تضم رجال جيش وإدارة وصحفيين وأساتذة جامعات وقضاة بهدف إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي. منذ منتصف عام 2007 شكلت النيابة العامة فرقا خاصة لمطاردة هذه الشبكة من المتآمرين، سواء كانت مزعومة أم حقيقية.
البحث عن مخرج من الأزمة: في النزاع حول خطط الجيش للقيام بانقلاب، وبعد حديث استمر ثلاث ساعات مع رئيس الوزراء إردوغان والجنرال باسبوغ، دعا الرئيس عبد الله غول إلى التمسك بالدستور والولاء له
خلال ذلك تم وما زال يتم التنصت الشامل على المتهمين، ولذلك فإن عديدين، مثل الباحث الاجتماعي والمعلق الصحفي هالوك شاهين، يرفعون صوتهم بالشكوى من أن الحدود بين قادة الانقلاب المحتملين وبين النقاد المسالمين للحكومة قد تم تجاوزها منذ فترة طويلة. "يسود الآن نظام يهدف إلى إدخال الخوف في القلوب". وإذا كانت تركيا قد حبست أنفاسها بعد الموجة الأولى من الاعتقالات التي طالت كبار رجال الجيش، ما دفع عديدين إلى التساؤل بخوف عمّا إذا كان الرد سيتمثل في خروج الدبابات إلى الشوارع، فإن هذه المخاوف قد تبخرت الآن. على خلاف ذلك فإن النقاش يدور حول إقالة رئيس الأركان إلكر باسبوغ قبل نهاية مدة خدمته. ولكن إردوغان، حسبما يتردد، يعارض ذلك لأن خليفته، المقرر أن يتسلم منه السلطة بالتناوب، لا "يمثل ضماناً لتوجه ديمقراطي".
وإذا كان من المستحيل أن يتخيل أحد قبل نصف عام أن يجرؤ رئيس الحكومة في تركيا على إحالة رئيس الأركان ببساطة إلى التقاعد، فإن الساسة الآن يفضلون أن يتركوا رئيس الجيش الحالي في منصبه حتى يتم الاتفاق على قواعد سلمية تنظم أمر خلافته.
الجنرالات يفقدون سلطتهم
هذا يعني نهاية حقبة من تاريخ الجمهورية التركية استمرت تسعين عاماً. لقد ولى وانقضى إلى غير رجعة عهد إمساك باشوات الجيش بدفة الأمور سواء أمام الكواليس أم خلفها، وهو ما ينطبق أيضاً على الجنرال إلكر باسبوغ نفسه الذي قال قبل أسبوع: "لقد انقضى زمن قيام الجيش بانقلاب". رغم ذلك فإن الأجواء في البلاد يسودها الترقب. ففيما عدا بعض المعلقين الإسلاميين المعروفين الذين ينفخون بين الحين والآخر في أبواق الانتصار فإن أحداً لا يلاحظ في الشوارع تحمساً للانتصار على رجال الجيش. هناك هموم أخرى - مثل نسبة البطالة الآخذة في النمو والخوف من فقدان العمل والصراع اليومي في مواجهة التدهور الاجتماعي - تطبع بملامحها الحياة اليومية لأغلبية الأتراك والتركيات الذين يشعرون منذ فترة طويلة بأن الصراع على السلطة بين الإسلاميين والكماليين (نسبة إلى كمال أتاتورك) يصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية في البلاد.
غير أن الأمر يختلف بين المثقفين والفنانين والكتاب والعاملين في المجال الثقافي. ففي حين يدافع البعض بحرارة – مثل أحمد ألطان، رئيس تحرير "طرف" وإيتان ماهتشوبيان، الذي خلف هرانت دينك في رئاسة تحرير الصحيفة التركية الأرمنية "أغوس" - عن الإنجازات الديمقراطية لحكومة حزب العدالة والتنمية، فإن البعض الآخر يتخوف أن يكون حالهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.
شوكة في حلق حُماة الأخلاق المسلمين!
شوكة في حلق حُماة الأخلاق المسلمين: مسلسل "أشكي ممنوع" (الحب الممنوع)، أنجح مسلسل في التلفزيون التركي حالياً أحد هؤلاء المتخوفين هو الكاتب والمعد المسرحي أوتسن يولا. "أصبحت أخاف على حياتي"، هكذا أعلن الكاتب الأسبوع الماضي على لسان المتحدث باسم مسرح "كومبارتشي 50". كتب يولا نصاً مسرحياً بعنوان "العق ولكن لا تبلع"، وكان من المفروض أن يتم افتتاح المسرحية هذه الأيام، غير أنها رُفعت من البرنامج لأن يولا وأعضاء الفرقة تلقوا تهديدات عنيفة بسبب المسرحية.
تدور المسرحية حول ملاك يحاول أن يجد إنساناً طيباً على الأرض. يظهر الملاك في صورة ربة منزل فقيرة تعمل ممثلة إباحية لتحسين أوضاعها المالية. كان هذا يكفي حتى تشن الصحيفة الإسلامية اليومية "فاكيت" حملة مسعورة، بكل معنى الكلمة، متذرعة بأن المسلمين الأتقياء مصدومون بسبب مضمون المسرحية المنحلة، وهكذا طالبت الصحيفة بمنع عرض المسرحية. في أعقاب ذلك قام مجلس حي "باي أوغلو" التابع لحزب العدالة والتنمية بإغلاق المسرح بالشمع الأحمر، بحجة أن لوائح الوقاية من الحريق لم تُتبع. اهتم مقدم برنامج مشهور في التلفزيون بالقضية وتسبب على كل حال في إحداث ضغط من جانب الرأي العام أدى إلى تراجع مجلس الحي عن قراره. غير أن إدارة المسرح ألغت العرض في نهاية المطاف خوفاً على حياة الممثلين وسلامتهم الجسدية.
إن مصير هذه المسرحية أكثر بكثير من أن يكون حالة فردية، فالفن الذي يُظهر اللحم العاري يواجهة مشكلة كبيرة في تركيا اليوم. هذه النتيجة توصل إليها أيضاً القائمون على صنع أشهر مسلسل تلفزيوني في تركيا. "أشكي ممنوه" (أي: الحب الممنوع)، هو عنوان أنجح مسلسل في التلفزيون التركي، وهو يُعرض أيضاً في الدول العربية المجاورة حيث يتمتع هناك بشعبية جارفة.
"الحب الممنوع" على قائمة الممنوعات
بعد أن قامت محاكم إسلامية في دول مثل السعودية بالمطالبة بمنع المسلسل، فإن النقاش يدور حالياً في تركيا أيضاً لوضع "الحب الممنوع" على قائمة الممنوعات. إن المسلسل الذي يدور حول وقوع رجل في حب زوجة أخيه يمثل تهديداً للقيّم العائلة، هكذا انتقدت وزيرة العائلة الجديدة أليه كافاف المسلسل منذ فترة طويلة. منذ ذلك الحين ومجلس الإشراف على الإعلام يدرس حظر بث المسلسل. غير أن الصراع الثقافي بين مجتمع يناضل من أجل حريته وبين الجماعات والأحزاب الدينية التي تزداد سطوتها يوماً بعد يوم لا يقتصر على المسرح والسينما والتلفزيون.
في الصيف الماضي اكتشف زوار حانة مشهورة تطل مباشرة على البحر في حي مودا بأسطنبول أن البيرة والمشروبات الكحولية الأخرى قد اختفت من على قائمة المشروبات بين عشية وضحاها. تؤجر الحانة شركة النقل البحري التابعة لمدينة أسطنبول، وهي أصدرت قراراً بمنع بيع الكحول في الحانة. وفي حين أن منع شرب الكحول في مناطق أخرى من المدينة يسري دون أن يعترض أحد، فقد ثار الناس في حي مودا الغربي الطابع. لمدة أسابيع راح المتظاهرون يسيرون أمام الخانة وهم يمسكون بالبيرة في أيديهم ويطالبون بحقهم في احتساء البيرة خلال أوقات فراغهم في أجمل مكان في الحي. الرد على ذلك تمثل في مجيء الشرطة التي ظلت تنهال بالضرب على المتظاهرين حتى أصبحوا لا يجرؤون على المجيء إلى الحي.
رغم كل هذا فما زال عديد من المسلمين المتحمسين يعتبرون إسطنبول بؤرة للرذيلة. في معظم مدن الأناضول أصبح من المستحيل الحصول على رخصة لبيع المشروبات الكحولية في الخانات والمقاهي، حتى إن مدناً كبيرة مثل كونيا وكايسيري أصبحت في واقع الأمر خالية من الكحول. بالنظر إلى مثل هذه التطورات فإن الريبة بدأت تملأ بعض الأنصار العتيدين لحزب العدالة والتنمية. واحد منهم هو الصحفي مصطفى أكيول الذي كان حتى الآن يدافع دوماً عن الحكومة. قبل يومين كتب أكيول: "أعتقد أن الثقافة السياسية لحزب العدالة والتنمية تتجه يوماً بعد يوم إلى الاستبداد. إذا حكم حزب العدالة والتنمية تركيا وحده، فلن تعرف البلاد المرح أو الحرية أو الديمقراطية".
الكاتب: يورغن غوتشليش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010