العائلة الكبيرة في لبنان تندثر والأزواج الجدد يفضلون أطفالاً أقل
٢٣ نوفمبر ٢٠١١يتوجه الجيل الجديد من الشباب حديثي الزواج في لبنان إلى الحد من الإنجاب، وحصر نسلهم بطفلين في أغلب الأحيان. فما كان رائجاً في الماضي من تعدد الأطفال لم يعد تقليداً راسخاً هذه الأيام لدى العائلات التي تتكون حديثاً. ويتوجه الأزواج الجدد إلى تحديد نسلهم بمبادرات فردية، دون الحاجة إلى قوانين كتلك التي تتبعها بعض البلدان التي تتميز بكثافة سكانية عالية مثل الصين. وتتعدد الأسباب بالنسبة لهؤلاء، وإن كان معظمها يعود على المصاعب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وتغير نمط الحياة، يبقى الأهم في نظر هؤلاء تغير مفهوم تربية الطفل وتأمين احتياجاته العصرية الأساسية التي باتت مطلباً أساسياً في زمننا هذا.
طفل إضافي؟ مأساة أكبر
"مبروك .. أنت حامل". كان يمكن لهذه الكلمات أن تحمل فرحاً لامرأة تريد أن تكون أماً لأكثر من طفلين. أما سعاد فوقع الخبر عليها كالمياه الباردة. فزوجة الموظف البسيط في إحدى المؤسسات التجارية، الذي يعمل أيضاً حارساً ليلياً في أحد المصارف اللبنانية للمساعدة على تأمين نفقات العائلة، كانت قد اتخذت قرارها بالاتفاق مع زوجها على الاكتفاء بولدين، مضيفة، في حديث مع دويتشه فيله، أن "عائلة صغيرة مستورة أفضل من عائلة كبيرة تغرق بالديون".
وتتمتم سعاد، والدموع تترقرق في عينيها، أن الطفل الإضافي "مشكلة .. مأساة .. معاناة إضافية"، وتتذكر كلام والدتها وجدتها، بأن "الولد يأتي ويحمل رزقه معه". لكن سعاد تجد أن هذه المقولة "انتهت صلاحيتها وتغير الزمن". فالمعادلة بالنسبة لها تبدلت على الرغم من أن والدتها أنجبت سبعة أولاد. وتتابع الأم اللبنانية بالقول إن "الولد يأتي ويحمل معه هم تأمين كلفة معيشته وتربيته ودخوله إلى المدرسة ثم الجامعة".
في الماضي كانت مكانة المرأة في المجتمع اللبناني تعلو كلما زاد عدد الأطفال التي تنجبهم، تبعاً للتشبيه القائل إن "الحياة عبارة عن أرض زراعية كبيرة. كلما ازداد عدد الأولاد زاد المحصول والإنتاج". لكن أعباء الحياة الحالية تجعل من هذا المفهوم فاقداً لقيمته، إذ إن "شقة صغيرة تكاد لا تكفي، ودخل ضئيل لا يستطيع انتشال العائلة من حالة الفقر المدقع".
"المجتمع اللبناني يتماشى مع المجتمعات الدولية"
وفي هذا السياق توضح الباحثة وأستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، منى فياض، لدويتشه فيله، أن هناك "اتجاه عالمي وتحول عميق في الظروف الموضوعية والبيئية المحيطة بالأزواج الجدد ينعكس على سلوكهم النفسي". وبرأيها فإن "التغيير الذي يطرأ على ممارسة الحياة اليومية من خلال عمل الأزواج الجدد وسرعة نمط الحياة الذي يستهلك الكثير من الوقت، إضافة إلى الأعباء الاقتصادية التي تلقي بكاهلها على الأزواج الجدد، كلها تؤدي إلى الحد من الإنجاب".
وهناك أسباب لا تقل أهمية، بالنسبة لفياض، ومنها تأخر سن الزواج لدى المرأة والرجل معاً، إضافة إلى توجه المرأة العصرية إلى تحقيق ذاتها وإثبات نفسها من خلال العمل. وتقول فياض إن "المرأة لم تعد تريد التضحية بنفسها وعملها على حساب العائلة والأولاد، فهناك متطلبات المرأة من نفسها مقابل متطلبات عائلتها منها".
وتعتبر فياض أنه يجب فهم هذا التغيير الاجتماعي وعدم تحميله بالإيجابيات والسلبيات، موضحة أن الأسرة الصغيرة تتيح لأفرادها التواصل بشكل أكبر فيما بينهم. كما تفتح المجال لتوظيف العواطف والانفعالات من خلال اهتمام الأم بولد أو ولدين، بدلاً من الاهتمام بعدد أكبر من الأولاد كما كان يحصل في السابق. وتشير الباحثة اللبنانية أيضاً إلى ضرورة عدم تجاهل مشكلة شيخوخة المجتمعات العربية، كما يحصل في المجتمعات الأوروبية. وتقول منى فياض: "تتميز المجتمعات العربية بوجود شريحة واسعة من فئة الشباب، بعكس المجتمعات الأجنبية الأخرى". لذا، يتوجب على الدولة برأيها وضع سياسات حكومية توعوية وتنموية تهتم بالأسرة وتولي عناية أكثر للأم والطفل.
هدف سام وليس قراراً أنانياً
رنا أم لولد واحد وتعمل مسؤولة عن العلاقات العامة في إحدى شركات الإعلان. تقول رنا إن صورة المرأة في العصر الحالي تغيرت عن صورة المرأة النمطية في الماضي، مضيفة أن "المرأة في زمننا هذا هي امرأة عاملة وعنصر فاعل في المجتمع قبل أن تكون ربة منزل". من هذا المنطلق، قررت رنا وزوجها إنجاب طفلين فقط، معللة ذلك بأنها تريد تحقيق ذاتها في عملها، وأنها لن تتمكن من إحراز نجاح مهني في حال كان لديها أكثر من ولدين. وترى رنا أن تغير نمط الحياة وسرعتها تجعل الوالدين العاملين يفتقران أحياناً إلى الوقت اللازم لقضائه مع أطفالهما، وإعطاءهم ما يلزمهم من الحنان والاهتمام، كاشفة أنها تواجه "صعوبة في توفير الوقت، كماً ونوعاً لطفلي .. فكيف بأطفال كثر؟ حينها أكون أرتكب جريمة بحق نفسي وبحق الأطفال الذين أنجبهم، ولا أتمكن من إعطاءهم الوقت الضروري لبناء صحتهم النفسية".
لا يلخص الهم الاقتصادي والاجتماعي وحده وتحقيق الذات كل الأسباب التي تدفع اللبنانيين إلى الحد من الإنجاب. جنى، مثلاً، كمعظم بنات جيلها اللواتي يسعين إلى الاستقلالية قبل الارتباط، تزوجت في الثلاثين من عمرها من رجل يكبرها بعشر سنوات. تحب جنى الأطفال، خاصة وأنها تربت في كنف عائلة تتكون من خمسة إخوة. وتقول جنى، المتزوجة حديثاً، لدويتشه فيله: "أريد إنجاب طفل واحد الآن. وإذا أسعفني الوقت قبل عتبة الأربعين سأسارع لإنجاب طفل آخر. لكن حينها سيتوقف الأمر هنا".
وعلى الرغم من أن جنى تؤيد الزواج المتأخر للفتيات حتى يتمكن من بلوغ أهدافهن العلمية والمهنية، إلا أنها ترى أنه في خضم كل هذه الإيجابيات ثمة سلبية واحدة تتمثل بالفارق العمري في حال قرر الزوجين إنجاب الأطفال.
قرار مشابه اتخذه عماد، الذي يرى أن العائلة الكبيرة التي طالما حلم بها والده جعلته هو وإخوته يعيشون شتى مراحل حياتهم بكثير من الإجحاف، إذ اضطروا لترك المدرسة والعمل في عمر مبكر لكي يتمكنوا من إعالة أنفسهم ومساعدة عائلتهم. ويضيف عماد، في حديث مع دويتشه فيله، أنه لا يريد "هذا المستقبل أو هذه الحياة لطفلي ... أريد له حياة لائقة تبدأ بتوفير تعليم أفضل في المدرسة، وصولاً إلى الجامعة، دون أن أحرمه في هذه المراحل من أي شيء يريد تحقيقه".
ويشارك عصام، الأب لطفلين، رأي عماد، فهو يرى أن متطلبات الحياة العصرية "تقصم ظهر الأهل ... فالولد يريد هاتفاً محمولاً كبقية أقرانه، وجهاز كمبيوتر في أحسن الأحوال. كيف سأتمكن من توفير ما بات أساسياً في حياة الجيل الجديد إذا ما كان لدي أكثر من طفلين؟" ويجد عصام أيضاً أن الحياة في بلد متدهور أمنياً وعلى شفير حرب في أي لحظة مثل لبنان هو كالتأرجح على كف عفريت. لذا يرى أن على الأزواج التفكير مرتين قبل الإنجاب.
دارين العمري – بيروت
مراجعة: ياسر أبو معيلق