العراق على مفترق طرق
٣١ يناير ٢٠١٣وصل العراق الآن مفترق الطرق، إما أن يكون أو لا يكون، إما التقسيم إلى ثلاث دول أو الصوملة وخروج مكونة واحدة "منتصرة" تهيمن على بقية المكونات كما كان الوضع قبل 2003. فمن مراجعة سريعة لتاريخه الحديث منذ الحرب العالمية الأولى وإلى الآن، نعرف أن الشعب العراقي غير متصالح مع نفسه، وفيه من الصراعات الطائفية والقومية أكثر من أي شعب آخر. فأي موقف يتخذه الشيعة في الوسط والجنوب، يتخذ سكان المحافظات الغربية (العربية السنية) العكس تماماً. حصل ذلك في الحرب العالمية الأولى، حيث حرب الجهاد، وثورة العشرين في الفرات الأوسط، وكذلك الموقف المتباين للمكونين من ثورة 14 تموز 1958-1963، وانتفاضة آذار (شعبان) 1991، وبعد إسقاط حكم البعث 2003، وأخيراً التصعيد الجديد، حيث تم رفع الشعارات الطائفية الصريحة في المحافظات السنية بإسقاط الدولة والدستور.
خلال أربعة قرون من حكم الاستعمار التركي العثماني كان العراق مقسماً إلى ثلاث ولايات، الموصل وبغداد والبصرة. وعند تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لم تكن الوحدة الوطنية العراقية خياراً شعبياً، بل فرضت على الشعب العراقي بالقوة عن طريق المولدة (القابلة) البريطانية، ومن ثم دكتاتورية المكونة الواحدة التي اضطهدت المكونات الأخرى بذريعة صهرها في بوتقة "الوحدة الوطنية". والنتيجة كانت العكس، حيث تخندق العراقيون في خندق الأثنية والطائفة على حساب الوحدة الوطنية. والآن تأكد لنا أن كل ما قيل في تمجيد الوحدة الوطنية كان كذباً ونفاقاً كما تجلى ذلك بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003، حيث مارس الشعب العراقي الديمقراطية الحقيقية لأول مرة في تاريخه، إذ كما ذكرنا في مقال سابق، الديمقراطية تكشف حقيقة الإنسان والمجتمع.
المحاصصة هي نتيجة الصراع الطائفي
يدعي العلمانيون الديمقراطيون واليساريون، أن الصراع القائم حاليا هو نتاج حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية، والتخلص من المحاصصة ينهي الأزمة. أكدنا لهم أن العكس هو الصحيح، أي أن المحاصة هي نتيجة الصراعات الطائفية المزمنة في العراق وليست السبب لها. فهذا الصراع وكما بينا، كان موجوداً منذ تأسيس الدولة العراقية بل وقبلها بمئات السنين، وشهد بذلك عالم الاجتماع على الوردي، أعيد ما قاله صراحة قبل 50 عاماُ كما يلي:
"إن الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟"
ولكن حتى هذا الحل الذي اقترحه عالم الاجتماع لم يوافق عليه المدمنون على السلطة بالقوة، لذلك تحججوا بمختلف الذرائع في شن حربهم على الديمقراطية والحكومة المنتخبة، تارة بأنها عميلة نصبها الأمريكان، وأخرى بأنها عميلة لإيران، إضافة إلى قائمة الشتائم الطائفية البذيئة الصريحة.
غرب العراق في يد تركيا وقطر
غني عن القول أن ما يجري في العراق من فوضى عارمة في المحافظات الغربية، بدفع وتخطيط من حكومات المنطقة، وبالأخص تركيا وقطر. فحكومة أردوغان تتدخل بمنتهى الصلافة والصفاقة بالشأن العراقي بشكل علني وفض لا يجب على الحكومة العراقية السكوت عنها. فقد أفادت الأنباء أن شهدت اسطنبول "يوم 26/1/2013 عقد مؤتمر ثان تحت عنوان نصرة انتفاضة الشعب العراقي والذي دعا خلاله رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان إلى إقامة حكومة راشدة في العراق". رافق ذلك التصعيد السياسي للقائمة العراقية بعد أن انسحبت من الحكومة وعلقت حضورها في البرلمان. لا شك الغرض من ذلك هو إرباك الحكومة تمهيداً لإسقاطها، وبالتالي إسقاط الدولة وإغراق العراق في فوضى عارمة تهلك الحرث والنسل. ومن مخططات قادة التظاهرات التحرش بالجيش الوطني لاستدراجه للصدام المسلح كما حصل في الفلوجة قبل أيام، واتخاذه ذريعة لإشعال حرب طائفية طاحنة على غرار ما يجري الآن في سوريا الجريحة، ومن قبل نفس الجهات والحكومات، فهذه الخطة معدة سلفاً، وفي جميع الأحوال، يكون الجيش هو الملام حتى ولو أدى واجباته لحماية أرواح وممتلكات المواطنين.
هل يقود البعث والقاعدة التظاهرات؟
بات من المؤكد أن قادة التظاهرات هم من البعثيون وحلفائهم أتباع القاعدة، وبينهم عراقيون مستعدون ليكونوا أدوات طيعة بيد الحكومات المعادية لتدمير العراق وشعبه مقابل مكاسب شخصية وآنية، وإلا كيف يرضى شخص يدعى (الدكتور طه الدليمي) أن يكيل أبشع الشتائم الطائفية ضد أكبر مكونة من مكونات الشعب العراقي من تلفزيون خليجي، وتظهر جماعة في تظاهرة الرمادي يحملون لافتة مكتوب عليها: (كلنا الشيخ طه الدليمي) في إشارة إلى أن شتائم الدليمي ضد الشيعة ليست تصرفاً شخصياً، بل تمثل موقف كيان سياسي وسحبه على أهل السنة، وهم براء.
فهل جاءت هذه الهتافات عفوية أم وراءها مخططات إقليمية لإشعال حرب طائفية تحرق الأخضر بسعر اليابس؟ وهذا يعني أن في العراق أناس على أهبة الاستعداد لحرق بلادهم تنفيذاً لأوامر أمير قطر، والرئيس التركي أردوغان.
وفي جميع الأحوال فهذه التظاهرات ليست من أجل الديمقراطية، كما يدعي البعض، بل لإجهاضها. ولكن مع ذلك نلاحظ أدعياء الديمقراطية والعلمانية وحتى البعض من أدعياء اليسارية، يدعمون هذه التظاهرات ويمنحونها صفة الشرعية، ويدّعون أن مطالبها مشروعة، حتى ولو تضمنت أهدافاً غير مشروعة مثل إسقاط الدولة والدستور، إضافة إلى رفع شعارات طائفية صريحة. ولكنهم في نفس الوقت يستنكرون تظاهرات الجماهير في محافظات الوسط والجنوب المساندة للحكومة المنتخبة. فنحن أمام مفارقة غريبة وعجيبة، نرى ديمقراطيين يساريين يدعمون تظاهرات يقودها أعداء الديمقراطية، ويستنكرون تظاهرات لدعم الديمقراطية.
"تنازلات الحكومة تشجّع المتظاهرين على التمادي"
وفي خضم تصاعد ضجيج دعاة العنف والطائفية، ورغم وجود عدد غير قليل من العقلاء والحكماء في المكون السني من أمثال المفتي الشيخ مهدي الصميدعي، والشيخ حميد الهايس وخلف العليان وغيرهم، إلا إن البلطجية من دعاة العنف والفوضى وتدمير العراق مازالوا هم الأقوى، وصوتهم هو الأعلى صخباً وضجيجاً، ويقتلون كل من لا يسايرهم كما قتلوا النائب المعتدل عيفان العيساوي.
ومما شجع المتظاهرين على التمادي في نشاطهم التخريبي هو تساهل الحكومة واستجابتها لكثير من طلباتهم وتقديم المزيد من التنازلات لهم. بينما الحقيقة إن الغرض من هذه التظاهرات ليس المطالبات المشروعة مثل إطلاق سراح (المعتقلين الأبرياء..الخ)، بل الطلبات التعجيزية غير المشروعة مثل إلغاء قانون الإرهاب، وقانون المساءلة والعدالة...الخ. كما لم تكن غايتهم إسقاط المالكي فحسب، فهذا الطلب يمكن تحقيقه بسحب الثقة منه في جلسة برلمانية واحدة لو أرادوا، ولكن الغرض الرئيسي هو، وكما قالوها صراحة، إسقاط الدولة والدستور. فهل الحكومة مستعدة لتحقيق ذلك لهم؟
كذلك تأكدت لجنة الحكماء وهم من السنة، أن الإدعاء بالاعتداء على شرف السجينات كان باطلاً، إذ أفادت الأنباء أن: "كشف رئيس هيئة إفتاء أهل السنة والجماعة في العراقورئيس لجنة الحكماء الخاصة بملف المعتقلات، الشيخ مهدي الصميدعي، يوم الخميس [25/1/2013]، أن إحدىالقنوات الفضائية عرضت على إحدى المعتقلات المفرج عنهن في الغزالية ببغداد، مبلغ 20الف دولار مقابل أن "تدعي" بوجود حالات اغتصاب داخل السجون، وأكد أن اللجنة سترفعدعوى قضائية ضد القنوات التي روجت لذلك، نافيا قيام لجنة الحكماء بـ"مقايضة النساءبالمال" مقابل "الستر".
وهذا غيض من فيض من المؤامرة. فإلى أين يسيرون بالعراق؟ وهل هناك نهاية سلمية لهذه "الانتفاضة" التي يحلو للبعض تسميتها بـ(الربيع السني؟)