المهاجرون في ألمانيا: حضور عددي كبير وغياب شبه كلي عن الحياة العامة
١٤ أكتوبر ٢٠٠٦"ألمانيا بلد متنوع الثقافات ومتعدد الأجناس أكثر مما يعتقد" هذا ما توصلت إليه دراسة تحليلية للمعطيات الإحصائية الخاصة بالجهاز الاتحادي الألماني للإحصاء لعام 2005، والتي نشرت في شهر يونيو/ حزيران الماضي. ووفقا لهذه الدراسة التي تناولت لأول مرة الخلفيات الاجتماعية والجذور العائلية للسكان في ألمانيا، فان حوالي 15،3 مليون من سكان ألمانيا، يمثلون 15 في المائة من إجمالي عدد السكان، ينحدرون من أصول أجنبية. وهؤلاء يشكلون حوالي خُمس سكان ألمانيا البالغ عددهم 82،4 مليون نسمة.
لكن السؤال الأهم هو ما مدى حضور هؤلاء المهاجرين في القطاعات الحيوية والمؤسسات الهامة للدولة والمجتمع مثل الجامعات والوزارات ووسائل الإعلام وغيرها؟ وما هي الفرص المتاحة أمامهم للاندماج في المجتمع والحصول على فرص متكافئة مع غيرهم من المواطنين الأصليين في مجالات التعليم والعمل وتولي المناصب الهامة والحساسة في الدولة؟ بالنظر الى المعطيات في الواقع العملي وبمجرد العودة إلى الأرقام الإحصائية يتضح بأن هذه النسبة من المهاجرين هي مجرد رقم كبير في سجلات الإحصاء السكاني وسجلات الهجرة. وإذا ما أمعن المرء أكثر في الوظائف الأكاديمية والإعلامية الهامة والمناصب السياسية الحساسة في البلد، فسيلاحظ غيابا شبة تام لهؤلاء. ويكاد يكون في حكم المستحيل ان يرى المرء وزيرا من أصول تركية او قاض بسحنة أفريقية او سفير بلحية عربية أو حتى مذيعة جميلة بلكنة هندية. ويجد المتميزون أنفسهم أمام احد الخيارين: إما البقاء على هامش المجتمع والضياع وسط ديناميكيته السريعة وإما الهروب إلى الأمام عن طريق الهجرة إلى بلد ثالث.
الاندماج بإرادة سياسية
أزداد الحديث عن إدماج المهاجرين في المجتمع الألماني، لاسيما في السنوات القليلة الماضية إلى الحد الذي أصبحت معه ما تعرف "بسياسة الاندماج" ضمن أجندة الأحزاب السياسية والسلطات الحكومية حتى ان الموضوع تحول إلى قضية سياسية ـ اجتماعية ـ ثقافية وحتى أمنية. في هذا السياق كانت الحكومة الاتحادية الألمانية الحالية قد أعلنت في وقت سابق من هذا العام خلال مؤتمر كُرس لمناقشة مسألة الاندماج، بأن التعليم يشكل محور جهودها نحو دمج المهاجرين في المجتمع الألماني. الخبراء والباحثون من جانبهم كانوا قد دعوا ومنذ وقت طويل إلى ضرورة أن تعيد المؤسسات العامة والخاصة النظر في سياساتها الحالية بما من شأنه تمكين المواطنين من أصول أجنبية من الحصول على فرص متكافئة في مختلف الوظائف العامة والخاصة والتدرج فيها دون قيود.
نظام النسب لتحقيق عدالة التوزيع
في هذا السياق هناك بعض المقترحات التي تدور حول إمكانية تطبيق نظام الحصص "الكوته Quote". بحيث تخصص للمهاجرين نسبه معينة من الوظائف العامة والخاصة أسوة بالنسب الممنوحة لبعض الشرائح الاجتماعية في المجتمع مثل المرأة والمعاقين وغيرهم. ويمكن الإقتداء بالولايات المتحدة الأمريكية في هذا الجانب، حيث يتم هناك الأخذ بنظام "الكوته" على مختلف المستويات التعليمية والوظيفية التي تراعى تمثيل الطوائف والجنس واللون وغير ذلك من الشرائح وفقا لحجم كل منها في المجتمع. و الفكرة نابعة أصلا من وجود اعتقاد بأن عدالة التوزيع لن تتحقق من تلقاء نفسها تحت ظروف اجتماعية وسياسة واقتصادية معينة، الأمر الذي يتحتم معه تدخل الإرادة السياسية. وهذا النظام لا يخلو بطبيعة الحال من صعوبات ومعوقات عند وضعه موضع التطبيق، لكن لا يجد المعنيون بالشأن في ألمانيا مشكلة في طرحه للنقاش.
كسر الحلقة المفرغة يبدأ بالتعليم
الصعوبات تبدأ من المدرسة، حيث تكون بداية قتل المواهب أو إهمالها. مثلا منذ بدأ العمل بالدراسة الدولية التقيمية لمستوى المدارس الألمانية المعروفة بـ "بيزا"، صار الأمر جليا بأن أبناء المهاجرين يواجهون صعوبات في التعليم اكثر من أقرانهم الألمان. بلغة الأرقام فان فقط 18،7 من طلاب "المدارس الأجنبية"، التي تشكل حوالي 9،9 في المائة من إجمالي المدارس الألمانية، يتابعون الدراسة في المرحلة المتوسطة( Hauptschule)، و13،1 في المائة يذهبون إلى المدرسة العامة (Gesamtschule) وفقط 4،1 في المائة يلتحقون بالثانوية (Gymnasium). ومما لاشك فيه أن التعليم يشكل حجر الأساس في عملية اندماج الهاجرين في المجتمع. فمن خلال التعليم يتم إذابة الفوارق وتحقيق تكافؤ الفرص في المجتمع فيما بعد على أساس الكفاءة والخبرة والمؤهل وليس على أساس الأصل او اللون او الجنس او الجنسية. هذا ناهيك عن ان التعليم هو السبيل إلى التكيف مع المجتمع الجديد للمهاجرين والاندماج فيه وبالتالي القدرة على العيش والتعايش مع الآخرين فيه. كما يمهد التعليم المشترك في المدرسة والجامعة لوضع اللبنات الأولى للتسامح والقبول بالأخر والتعرف على ثقافته والتعود على التعامل معه وكسر الحواجز النفسية والثقافية. لكن طالما ظل الأجانب مع الأجانب والألمان مع الألمان في أماكن الدراسة، في السكن وفي العمل وميادين اللعب وحتى في المقاهي فإن الفجوة ستتعزز بين المهاجرين والمواطنين الأصليين وبالتالي تتعمق الغربة داخل المجتمع الواحد ويكون هناك مجتمعين متوازيين داخل البلد الواحد مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الأمن السلام الاجتماعيين وروح التضامن.