الهروب من الحرب.. الجسد في القاهرة والقلب في غزة
١٣ نوفمبر ٢٠٢٤في الماضي كانت منى (اسم مستعار) تحب جدا صوت البحر وأمواجه، في غزة كان البحر ثابتا ومستمرا كما هو. الشمس وأمواج البحر كانت تنسيها المصاعب وهمومها اليومية. وتقول "دائما حين كنت حزينة أو غاضبة، أذهب إلى البحر وأشعر بأنني أتقاسم همومي معه. أتمنى أن أستطيع أن أراه مجددا".
لكن الحرب في غزة غيرت كل شيء، والبحر فقد براءته. في الماضي كانت منى تستطيع أن تهمس له بهمومها وقلقها، لكنه أصبح الآن شاهدا أصم على الموت واليأس والبؤس.
في العاصمة المصرية القاهرة، أصبح البحر مجرد ذكرى. المدينة تعج بالمباني الخرسانية والأضواء التي لا تنظفئ، لكن رغم ذلك تشعر منى بأنها غريبة ومجهولة. البحر بعيد جدا عن القاهرة المزدحمة والصاخبة بهوائها غير النقي، وهي تشعر بالضيق، والحياة اليومية تحبس أنفاسها.
القاهرة.. هروب مكلف جدا ومخاوف جديدة!
تعيش منى في القاهرة منذ ستة أشهر مع أطفالها الثلاثة، وكانت حامل بطفلها الأصغر حين هربت مع ابنها الآخر وابنتها من الحرب في غزة، التي تقول إنها أشرس من كل الحروب السابقة. كان عليها النزوح مع عائلتها أكثر من مرة، ومحطة النزوح الأخيرة، قبل القاهرة، كانت في خيمة على شاطئ البحر، وتقول منى (31 عاما) بيأس "لقد رأيت الكثير من الموت والبؤس".
في القاهرة كانت هموم جديدة في انتظار منى، فبعد وصولها بمدة قصيرة تم طردها من أول شقة سكنت فيها. إذن أن صاحبة الشقة خافت من مشاكل مع السلطات المصرية وعواقب تأجير شقتها لنازحة فلسطينية.
بالنسبة لمنى التي عملت كمذيعة راديو سابقا، كان ذلك صفعة جديدة ذكرتها بعدم الشعور بالأمان في رحلة النزوح. فذكريات معاناتها وما مرت به في غزة تلاحقها في القاهرة أيضا كل ليلة. وإضافة إلى ذلك "كان علي أن أترك زوجي هناك لأن المال لم يكن يكفي لسفره هو أيضا معنا"، حيث جمعت العائلة 5 آلاف دولار من تبرعات أقاربها في الخارج لتغطية نفقات السفر إلى مصر.
وفيما تم السماح لآلاف المرضى والجرحى بالسفر إلى مصر وتلقي العلاج في مستشفيات القاهرة، خرج كثيرون أيضا من غزة بمساعدة البعثات الدبلوماسية الأجنبية أو عن طريق شركات سفر مصرية.
شركات السفر كانت تطلب "رسوم تنسيق" عالية جدا، لمساعدة الفلسطينيين على الخروج من غزة. وتشير تقارير إلى أن تلك الشركات لها علاقة بأجهزة الأمن المصرية، ولكنها تنفي ذلك.
فلسطينيو غزة يجب ألا يبقوا في مصر
من غير الواضح كم هو عدد الفلسطينيين الذين استطاعوا الخروج من غزة والبقاء في مصر. في بداية شهر مايو/ أيار الماضي، قدر السفير الفلسطيني في مصر، دياب اللوح، عدد هؤلاء بنحو 100 ألف شخص. لكن عمال الإغاثة يقدرون العدد بأكبر من ذلك بكثير. وقد تم إغلاق معبر رفح بين غزة ومصر في السابع من مايو/ أيار بعد سيطرة إسرائيل على تلك المنطقة. وتشعر منى الآن بقلق كبير حول زوجها.
معظم الذين خرجوا من قطاع غزة، باستثناء الجرحى، غادروه بموجب تأشيرة سياحية، انقضت مدتها ويقيمون الآن بشكل غير قانوني في مصر، وهو ما يحرمهم من المعالجة في المستشفيات الحكومية والخدمات العامة الأخرى ويحرم أبناءهم من التعليم في المدارس الحكومية.
كما أنهممحرومون من مساعدات المفوضية الساميةللأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لأنهم ليسوا ضمن ولاية هذه المنظمة؛ ورغم أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مسؤولة عنهم، فإنهم لا يتلقون منها أي مساعدات، لأن الأونروا ليس لديها تفويض في مصر. وبالتالي فإنهم يعتمدون على المجموعات المدنية التطوعية، التي توزع عليهم المواد الغذائية والملابس والأحذية وتساعدهم في البحث عن عمل وجمع التبرعات لهم.
وحسب تحليل لمجموعة الأزمات تشكل الحرب في غزة تحديا كبيرا لمصر. ويشعر النظام المصري بالقلق، من أن يؤدي الغضب الشعبي من تصرفات إسرائيل في قطاع غزة إلى احتجاجات ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة في مصر. ففي مارس/ آذار الماضي تم إلقاء القبض على عشرات المتظاهرين ضد التضخم والغلاء والفقر.
السلطات المصرية لا تريد أن يبقى الفلسطينيون من غزة ولا أن يعيشوا بشكل دائم في مصر. وحسب تحليل مجموعة الأزمات، تخشى مصر ألا تسمح إسرائيل بعودة الفلسطينيين إلى قطاع غزة. ومنى لا تريد التفكير فيما إذا كانت ستعود يوما ما إلى غزة أم لا، وتقول "الأسابيع الأولى هنا في القاهرة كانت صعبة جدا، لكن فيما بعد تعرفت على لوسي".
"هكذا يستطيع أطفالي أن يكونوا أطفالا"
لوسي (اسم مستعار أيضا) واحدة من الأشخاص الذين تعرفت عليهم منى وغيروا حياتها. لوسي ألمانية الأصل وهي تعيش في مصر منذ نحو عقدين، حيث أصبحت وطنها ولديها شبكة علاقات واسعة في القاهرة. إنها تشعر بالعطف على منى والنسوة اللواتي اضطررن إلى ترك وطنهن والنزوح إلى بلد آخر.
وهي تتذكر جيدا كيف لفتت منى نظرها حين كانت في نزهة بصحبة أخت زوجها، التي هربت قبلها إلى القاهرة. وتقول لوسي "لاحظت كم هي نحيفة وشاحبة، وكان واضحا أنها حامل. وبالكاد كانت تتكلم، لكن رغم ذلك دعتني إلى العشاء فيما بعد. لقد كان لقاء هادئا، لكن كان واضحا بالنسبة لي: إنها بحاجة للدعم".
بدأت السيدتان في دعم بعضهما. "إنها إنسانة جيدة وطيبة"، تقول منى عن لوسي شاكرة إياها من أعماق قلبها، وتضيف "لم تصحبني حتى ولادة طفلي فقط، وإنما كانت تؤمن الطعام لنا أيضا. إنها تساعد أطفالي في كل شيء. بفضلها يستطيع أطفالي أن يصبحوا أطفالا هنا في القاهرة".
عمر ابنة منى الكبرى 6 أعوام، وابنها 4 أعوام، وابنها الرضيع الذي ولد في القاهرة أكمل عقد الأسرة التي تعيش على أمل مستقبل آمن في الغربة. في أصعب لحظاتها، حين تطارد ذكريات غزة منى ليلا وتعود إليها المخاوف، تقف لوسي إلى جانبها.
بالنسبة إلى لوسي، فإن هذا الشكل من المساعدة ليس مشروعا خيريا، وإنما مبدأ للتضامن. "المساعدة المتبادلة، هي نوع آخر من المساعدة" تقول.
حين كانت لوسي في ألمانيا ساعدت اللاجئين أيضا واعتنت بالعائلات وملأت الاستمارات. لكن اللقاء مع منى والتعرف عليها، له معنى خاص بالنسبة إليها. إنها تشعر معها بالقوة والفخر الذي يتمتع به الناس من غزة رغم كل ما يعانونه. وتقول "منى تقول دائما إنها فلسطينية ابنة غزة. وهي فخورة بذلك".
لا حقوق ولا مدرسة ولا عمل!
ومع ذلك، فإن الوضع القانوني في القاهرة صعب بالنسبة لمنى والفلسطينيات والفلسطينيين الآخرين من غزة. فبدون تصريح الإقامة تبقى الكثير من الأبواب مغلقة في وجه منى، فلا يسمح لأطفالها بالدخول إلى المدرسة ولا يسمح لها بالعمل.
وطفلتها الكبرى تريد التسجيل في المدرسة، وهو ما كانت تأمل أن تحصل عليه في غزة أيضا. "في غزة كنت أعرف كل شيء وكل شخص، والكل كان مستعدا للمساعدة"، تقول منى وتضيف "المصريون أناس رائعون، لكن الحكومة لا تريدنا".
"غزة هي قلبي" تقول منى، وهي تفتقد الشوارع والمقاهي والناس، وتضيف بصوت ضعيف "أحب غزة، أحب فلسطين" وتتابع "لا أعرف ما إذا كان بيتي لا يزال قائما. لا يفارقني الخوف من تجدد الحرب هناك وأن يتعرض أبنائي للخطر". منى لا ترى أن لها مستقبل في غزة الآن.
غزة بالنسبة إليها مثل حب ممنوع، مكان يعود إليها ويخصها، لكنه بعيد لا تستطيع الوصول إليه. إنها تحلم بالعودة "لكن فقط حين يكون الوضع آمنا".
في مصر وجدت منى لحظة أمان وسلام، حين رافقت لوسي في رحلة إلى عين السخنة على البحر الأحمر. "استطعت أن أتقاسم همومي مع البحر من جديد" تقول منى عن تلك اللحظة.
ولوسي تفهم شوق وحنين منى ويذكرها ذلك بمعاناة الكثير من النازحين، وتقول "لم يكن هناك أي شيء لدى الناس، ولا حتى ملابس داخلية" والمساعدة بالنسبة إليها مسألة نابعة من القلب. ولكن فيما إذا كانت منى ستبقى بشكل دائم في القاهرة فإنها لا تعرف. فدائما تأمل منى أن ترى البحر في غزة مجددا.
أعده للعربية: عارف جابو