بعد عامين من توقيع "معاهدة التعاون والتكامل الألماني الفرنسي" المعروفة اختصارا بـ "معاهدة آخن" يبدو من الصعب على موقِّعَيْها، المستشارة أنغيلا ميركل والرئيس إيمانويل ماكرون، أن يفاخرا بانجازات كبيرة، ولا أن يقارنا نفسيهما بأبويْ معاهدة الإيليزيه التاريخية (1963) المستشار كونراد أديناور والرئيس شارل ديغول، اللذين كان لهما دور تاريخي في تحويل علاقات العداء الموروثة من الحرب العالمية الثانية إلى صداقة نموذجية ستشكل حجر الزاوية في بناء الوحدة الأوروبية.
معاهدة آخن أُحيطت إبان توقيعها في الثاني والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2019، بزخم كبير لأنها ظهرت كفرصة جديدة لإحياء الدور الألماني الفرنسي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. حيث عُلقت آمال كبيرة على "المحرك الفرنسي الألماني" بحجم التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي داخليا لإعطاء انطلاقة جديدة للمؤسسات الأوروبية المترهلة في مواجهة المد اليميني الشعبوي، وخارجيا لرفع تحديات الأمن الأوروبي والمنافسة التجارية الشرسة مع قوى عالمية صاعدة ومتاعب الشراكة الأطلسية المضطربة مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
واليوم باتت حقبة حكم المستشارة ميركل على مشارف نهايتها وبعد عام فقط تنتهي ولاية الرئيس ماكرون، ولم يعد بالتالي أمامهما كثنائي سوى أمتار أخيرة لنهاية حقبة، لم يخلِّدا فيها أثرا كبيرا على صعيد السياسة الخارجية يمكن مقارنته بما أنجزه الثنائي هيلموت شميدت - جيسكار ديستان ولا هيلموت كول - فرانسوا ميتران ولا حتى غيرهارد شرودر - جاك شيراك.
أسئلة حادّة باتت تطرح في أجندة السياسة الخارجية للبلدين ومن ورائهما الاتحاد الأوروبي اللذين تشكل شراكتُهما قاطرته، ولاسيما ما يتعلق بملفات ساخنة في شمال أفريقيا. إذ ما فتئت أزمة تخمد حتى تشتعل نيران أخرى ومعها يتصاعد دخان "المحرك الفرنسي الألماني" دون أن يتجاوز العَقبات.
مؤشرات العَطَب في هذا "المحرك" ظهرت في السنوات الأخيرة تباعا على محك ثورات الربيع العربي وبلغت حدّتها في الأزمة الليبية ومعضلة اللاجئين، ثم في نزاع تركيا واليونان في شرق المتوسط وصولا إلى تحديات الأمن في منطقة الساحل والصحراء وتداعياتها مع الهجوم على عاصمة تشاد نجامينا الشهر الماضي من قِبل متمردين تشاديين قادمين من ليبيا. وهاهي أزمة جديدة تُطل برأسها على خلفية نزاع الصحراء الغربية، لتضع مرة أخرى "المحرك" أمام عقبة جديدة!
تضارب سياسات برلين وباريس
بعد عام من لقاء آخن وفي منتصف مايو/ أيار 2020 جاءت المبادرة الفرنسية الألمانية لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي من تداعيات جائحة كورونا كمحاولة جريئة لوقف التدهور الدراماتيكي للاقتصادات الأوروبية وإعطاء زخم جديد للاتحاد الأوروبي في مواجهة شكوك واسعة بشأن قدرته على الاستمرار. وبصرف النظر عن مدى نجاعة مبادرة إنعاش الاقتصاد الأوروبي وعما إذا كانت علاجا لمشاكل الاتحاد أو هي مجرد مسكّن لأوجاعه، فإنه في المقابل على صعيد السياسة الخارجية يتعرض"المحرك الفرنسي الألماني" أو كما يحلو للفرنسيين تسميته بـCouple franco-allemand ، بشكل متواصل إلى اختبار مرير.
في تونس، مهد ثورات الربيع العربي كانت فرنسا آخر الداعمين لنظام زين العابدين بن علي في مواجهة الثورة ومخرجاتها الديمقراطية التي رحبت بها ألمانيا. وفي الوقت الذي استثمرت فيه ألمانيا جهودا اقتصادية وسياسية لدعم الانتقال الديمقراطي في هذا البلد الذي عُدّ كاستثناء في بلدان الربيع العربي، دعّمت فرنسا نخبا وجماعات ضغط سياسية ومالية وإعلامية و"الدولة العميقة" من أجل إعادة نخب النظام القديم للسلطة.
وفي ليبيا ظهر الخلاف كبيرا بين باريس وبرلين، منذ بدايات الانتفاضة على نظام العقيد الراحل معمر القذافي، عندما تزعمت فرنسا في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي هجوم قوات حلف الناتو بينما نأت ألمانيا بنفسها عن أي تدخل عسكري في البلد المغاربي الغني بالنفط والغاز. وعندما تعمقت الأزمة الليبية وتحولت إلى حرب أهلية بقيت برلين على خط التمسك بمسار الأمم المتحدة لتسوية الأزمة عبر الحوار بين الفرقاء الليبيين، في حين انخرطت فرنسا ماكرون في الصراع المسلح ودعمت الجنرال خليفة حفتر قبل أن تتخلى عنه في وقت لاحق.
وجاءت معاهدة آخن، لتعطي جرعة للتنسيق الألماني الفرنسي والأوروبي بشكل عام، ولاحت بوادر تقارب بين الشركاء الأوروبيين ( فرنسا وألمانيا وإيطاليا) حول الأزمة الليبية عندما استضافت برلين في يناير/ كانون الثاني 2020 مؤتمر ليبيا. لكن لم تمض بضعة أشهر حتى كشفت الأحداث أن الصراعات في جنوب البحر الأبيض المتوسط وشرقه تجاوزت الأوروبيين، وباتت القوى المؤثرة فيها مثل تركيا وروسيا تتحداهم في قضايا مصيرية بالنسبة لأمن أوروبا.
وفي الوقت الذي كان منتظرا أن تشهد السياسة الأمنية الأوروبية مزيدا من التضامن وبناء قوة جديدة لها، ظهرت الخلافات الألمانية الفرنسية داخل مؤسسات حلف الناتو بشأن التعامل مع تركيا في الأزمة الليبية وفي نزاعها مع اليونان.
وفي دراسة حديثة لمؤسسة العلوم والسياسة البرلينية المرموقة والمعهد الألماني للعلاقات الدولية والأمن، ذهبت الدكتورة رونيا كمبين كبيرة الباحثين في فريق الدراسة، إلى وصف سياسة الرئيس ماكرون الخارجية في ليبيا بـ"الأحادية" و"المخرّبة" وبأن سياسته الدفاعية والأمنية تتسم بـ"البراغماتية وطموحة إلى حد التدمير".
وتكشف الأحداث والأزمات المتعاقبة بأن الرؤية الاستراتيجية المشتركة التي تمت بلورتها في وثيقة "معاهدة آخن"، لم تفرز في وقت لاحق مخرجات على مستوى سياسات البلدين الأمنية والخارجية تطابق مصالحهما، مما رجّح منطق المصالح الوطنية على حساب الرؤية المشتركة الثنائية ناهيك عن الأوروبية.
ظهر الأوروبيين المكشوف في الصحراء!
في منطقة الساحل والصحراء حيث تقود فرنسا عمليات حفظ للسلام منذ حوالي عشر سنوات في مواجهة الجماعات الإرهابية، تحظى بدعم ألماني متزايد على المستوى المالي واللوجستي. ولكن الوجود الفرنسي هناك يواجه تحديات تتجاوز البعد الأمني المتصل بالحرب على الإرهاب، إذ يتعرض النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا لمنافسة شرسة من طرف الصين وتركيا، وعلى الصعيدين الأمني والعسكري من طرف روسيا.
فبعد أقل من عام على الانقلاب الذي حصل في مالي، كشفت الأحداث الأخيرة في تشاد، كيف تحول دور قوات مرتزقة تشادية كانت تقاتل إلى جانب الجنرال حفتر حليف فرنسا بالأمس، إلى خنجر في ظهر فرنسا بمنطقة نفوذ تقليدية، وذلك بدعم من روسيا. لتجد فرنسا نفسها كقوة أوروبية معزولة في ظل غياب غطاء أمني أو عسكري أوروبي.
إذ لا يكفي أن تتفق ألمانيا وفرنسا وحتى بدعم من باقي الشركاء الأوروبيين على أهمية الأمن والاستقرار في منطقة الساحل والصحراء في مواجهة الهجرة غير الشرعية والمشاكل الأمنية. ذلك أن التطورات المتسارعة والمتغيرات الجديدة في ميزان القوى العالمية والمنافسة على القارة الأفريقية، تكشف حجم التعقيدات والصعوبات أمام الأوروبيين، وكيف تزداد حدتها مع تراجع الدور الأمريكي وتغيير أولوياته الاستراتيجية في العالم.
اختبار جديد للأوروبيين
لا تزال برلين في طور المفاجأة و"الحيرة" إزاء التطور السلبي الذي تشهده علاقاتها مع الرباط. فعبر خطوتي تجميد الاتصال بالسفارة والمؤسسات الألمانية في المغرب ثم دعوة سفيرته في برلين للتشاور، اختار المغرب أن يميط اللثام عن أزمة ظلت صامتة لسنوات مع ألمانيا. فقد كشفت وزارة الخارجية المغربية وبشكل غير مسبوق عن "خلافات عميقة" مع برلين بشأن ثلاثة ملفات على الأقل: ملف الصحراء الغربية والأزمة الليبية والتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب.
ويبدو أن المغرب الحليف والشريك التقليدي لأوروبا، ألقى بحجر في بركة راكدة، من الملفات المتراكمة منذ بضع سنوات وعلى رأسها نزاع الصحراء الغربية. وقد تكون أخذت مداها في فترة تكليف الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر بمهمة المبعوث الخاص لأمين عام الأمم المتحدة في الصحراء، الذي استقال بعد فترة وجيزة من تكليفه بالمهمة لأسباب "صحية".
وجاء اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ليكشف من ناحية عن رؤية ألمانية لتسوية النزاع لا تختلف فقط مع الإدارة الأمريكية والمغرب، ولكن أيضا مع بعض القوى الأوروبية التي تميل إلى طرح المغرب بإنهاء النزاع عبر إقامة حكم ذاتي موسع، وعلى رأسها فرنسا.
فإلى جانب ألمانيا التي تتمسك بمسار الأمم المتحدة لتسوية نزاع الصحراء، وتنفي اتهامات المغرب بالقيام بـ"دور عدائي" له، تلعب إسبانيا دورا مؤثرا في الصراع بالمنطقة بحكم ماضيها الاستعماري لإقليم الصحراء الغربية، وبحكم جوارها للمغرب. ولوحظ أن التوتر في العلاقة بين الرباط وبرلين قد تزامن أيضا مع توتر في علاقتها بمدريد، خصوصا على خلفية استضافة هذه الأخيرة لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي "لأسباب صحية".
لكن ما الذي أشعل العلاقات التقليدية الدافئة بين المغرب أهم شركاء أوروبا في ملفات الهجرة والتعاون الأمني بجنوب المتوسط وألمانيا أقوى بلد في الاتحاد الأوروبي، وجعل وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة يخاطب الأوروبيين في تصريحات له الأسبوع الماضي بأن يخرجوا مما وصفه بـ"المركبة المريحة" و"الخطاب المزدوج" وأن "يتحملوا مسؤولياتهم" من أجل إنهاء ملف الصحراء على أساس حكم ذاتي في إطار سيادة المغرب، وذلك على غرار ما قامت به واشنطن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
ولماذا تلتزم باريس الصمت، منذ تفجر الخلاف بين الرباط وبرلين وكذلك مع مدريد؟ ففيما يبدو تفاديا من فرنسا للدخول في خلافات معلنة مع الشريكين الأوروبيين، بحكم العلاقات المتينة التي تربط فرنسا بالمغرب. يبدو المغرب الذي أقام تحالفات استراتجيية وثيقة مع الولايات المتحدة وأقدم على خطوة تاريخية بتطبيع علاقاته مع إسرائيل، يريد كسب موقف أوروبي مؤيد لأطروحته، وهو ما يصطدم لحد الآن على الأقل بمواقف دول مثل ألمانيا قاطرة الاتحاد الأوروبي و إسبانيا التي يتولى وزير خارجيتها السابق جوزيف بوريل أعلى منصب في إدارة السياسة الخارجية الأوروبية.
وتفتح الأزمة الدبلوماسية الحالية بين الرباط وكل من برلين ومدريد، سيناريوهات مختلفة بحسب سياقات علاقات البلدين، كل على حدة مع المغرب، لكنها تشترك في مصدرها أي ملف الصحراء وفي كونه بات يشكل اختبارا للسياسة الخارجية الأوروبية، في منطقة لطالما اعتبرتها أوروبا مجال نفوذ تقليدي وتاريخي. وراهنت طيلة عقود من الزمن على أنه يمكنها تحقيق مصالحها مع المغرب والجزائر كل على حدة، طالما أن الغريمين الإقليميين متنازعين، وطالما أن نزاع الصحراء لا يخرج عن المربع الذي يراوح فيه منذ ثلاثين عاما.
أليست أوروبا بالفعل مسؤولة، ليس فقط بحكم ماضيها الاستعماري للدول المغاربية، بل لأنها لم تستخدم نفوذها التقليدي والتاريخي ومرجعياتها الأخلاقية والقانونية من أجل تسوية نزاع عمر طويلا، وأنهك دول وشعوب المنطقة.
لكن ماذا لو خرج النزاع عن ذلك المربع سواء على الصعيد الدبلوماسي أو حتى العسكري والأمني؟ وهل يضمن الأوروبيون بقاء نفوذهم في المنطقة في ظل شراسة المنافسة مع الصين وروسيا وتركيا وعدم اليقين في الشراكة الأطلسية مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
فإذا كانت أوروبا قد تعرضت لامتحان كبير في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وحفزت القوتين المحوريتين في الاتحاد: ألمانيا وفرنسا على بلورة رؤية استراتيجية للتضامن الأوروبي في صيغة "معاهدة آخن"، فان إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن القريبة من التصورات الأوروبية قد تشيع حالة إرتخاء استراتيجي لدى الأوروبيين لجهة التعويل على التنسيق مع واشنطن، الأمر الذي قد يتسبب في تأخير أجندة بناء السياسة الدفاعية والأمنية والخارجية الأوروبية. تأخير قد يطول بسبب الأجندة الانتخابية التي تشهدها ألمانيا هذا العام وفرنسا في العام المقبل.
منصف السليمي