تحليل: النظام الموصد وتبعاته على التجارة والاستثمار بالجزائر
٤ يوليو ٢٠٢١يأتي تكليف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لوزير المالية السابق أيمن بن عبد الرحمن بتشكيل حكومة جديدة في وقت يمر فيه الاقتصاد الجزائري بواحدة من أصعب أزماته منذ استقلال البلاد عام 1962. وبدأت الأزمة التي ترافقها أزمة سياسية مستمرة قبل جائحة كورونا التي زادتها حدة. وزاد الطين بلة تراجع أسعار النفط والغاز التي تشكل منذ سبعينات القرن الماضي ما لا يقل عن 90 بالمائة من إيرادات الدولة بنسبة أكثر من 30 بالمائة. وتقدر مصادر مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية أن الاقتصاد الجزائري تراجع بنسبة 8 بالمائة خلال العام الماضي 2020 لوحده. وهو الأمر الذي خلف تبعات قاسية في مقدمتها تجميد الاستثمار في الكثير من مشاريع الدولة التي تسيطر على أهم القطاعات الاقتصادية.
ويعاني أكثر من ثلث الشباب في سن العمل من البطالة في الوقت الذي تقول فيه المصادر الرسمية أن نسبتها بحدود 15 بالمائة فقط. وهناك ارتفاع كبير في الأسعار، وليس من الواضح كيف ستسير الأمور هذه السنة على ضوء استمرار الجائحة والأزمة السياسية. وحتى في حال التحسن التدريجي الذي يساعد عليه ارتفاع أسعار النفط مؤخرا، فإن البلاد تحتاج إلى سنوات للعودة بالاقتصاد إلى مستوى ما قبل كورونا في وقت يزاداد فيه عدد السكان بحدود 800 ألف شخص سنويا. وهكذا فإن البلاد تقف أمام تحديات اقتصادية غير مسبوقة ينبغي على الحكومة الجديدة برئاسة التكنوقراطي أيمن بن عبد الرحمن مواجهتها.
التكنوقراط والإصلاح الاقتصادي المنشود
يوصف أيمن بن عبد الرحمن بأنه تكنوقراطي ناجح جمع الكثير من الخبرةفي القطاع المالي على مدى ثلاثة عقود. وقد تولى فيه أعلى المناصب بينها منصبي وزير المالية ومحافظ البنك المركزي الجزائري في وقت تستمر فيه معاناة البلاد من أزمة سيولة ومن انخفاض قيمة الدينار الجزائري.
وقد تعامل بن عبد الرحمن مع هذه الأزمة بشكل نظر إليه الكثير من الخبراء بعين الإعجاب. وترى العديد من الصحف الجزائرية المقربة من الدولة وشبه المستقلة أن حكومة التكنوقراط الجديدة التي سيترأسها تمثل مرحلة جديدة على طريق الإصلاح الاقتصادي المنشود منذ عقود.
غير أن الحديث عن مثل هذه المرحلة ما يزال مبكرا، لاسيما وأن الحكومة المقبلة ليست الأولى التي وضعت نصب أعينها هذا الإصلاح الذي يقوم على إحلال الواردات من خلال بناء دعائم أساسية كتنويع مصادر الدخل وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأغذية والسلع الاستهلاكية الأساسية إضافة إلى بناء صناعات تحويلية تكون ريادية على مستوى العالم العربي وأفريقيا.
ومن هنا يطرح السؤال نفسه، إلى أي مدى يمكن لحكومة بن عبد الرحمن دفع عملية الاصلاح الاقتصادي المنشود دون دعم القوى السياسية القادرة على تغيير البيئة التشريعية والقانونية الحالية التي يتم بموجبها إدارة اقتصاد الدولة بعقلية أقرب إلى اشتراكية يوغسلافيا السابقة منها إلى الرأسمالية الاجتماعية.
المشكلة الأساسية ليست في شكل الحكومة
في الواقع ومع كل الاعتراف بدور حكومة تكنوقراطية ذات كفاءة في تجاوز الأزمات، فإن مشكلة الجزائر الحالية في الصلاحيات المحدودة أو المقيدة لحكوماتها، لأن القرار السياسي والاقتصادي تتحكم به نخبة ينتمي أفرادها بشكل أساسي إلى مؤسسات الجيش والأمن والرئاسة وإلى رجال أعمال وتجار متحالفين بعضهم مع بعض على تشكيل ما يشبه احتكار مغلق لأهم الأنشطة الاقتصادية.
وتشكل هذه الأنشطة المسدودة أو شبه الموصدة أمام الآخرين من خارج التحالف المذكور العمود الفقري للاقتصاد الجزائري في ظل استمرار ضعف وإضعاف القطاع الخاص وغياب الدعم والتشجيع اللازمين له على مدى العقود الماضية. وتركز الأنشطة المذكورة على تمويل البنى التحتية وشركات القطاع العام حتى الخاسرة منها وعلى التسلح والصناعات الحربية ودعم أسعار الوقود والصحة والسكن ومواد أساسية أخرى من ريع النفط والغاز.
وفي هذا الإطار يتم استيراد غالبية السلع اللازمة للإستهلاك والإستثمار بدلا من دعم إنتاجها محليا بموجب سياسة إحلال الواردات التي تشكل هدف الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ عقود. وفي الحقيقة فإن النخب المتحكمة بالاقتصاد ليس لها مصلحة في تنفيذ سياسة كهذه، لأن الاعتماد على الاستيراد يضمن لها نسب عمولات وصفقات فساد أعلى بجهد أقل مما تضمنه سياسة إحلال الواردات التي تتطلب توطين مختلف الصناعات وما يستلزمه ذلك من تأهيل للكفاءات وإدارة للمشاريع وتشغيلها وتحديثها وغير ذلك.
وعليه فإن من مصلحة هذه النخب تشجيع الاستيراد وفرملة الإستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية خارج قطاعي النفط والغاز والحرص على ضعف أداء تلك التي يمكن لمنتجاتها منافسة المنتجات المستوردة بموجب صفقات تنطوي على الفساد. ويشتكي رجال أعمال أجانب حسب مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية أيضا من صعوبة المعاملات الإدارية وغياب الشفافية في منح التراخيص والموافقات والتغيير المستمر في قوانين الاستيراد بشكل لا يبعت على ثقة المستثمرين. ولا يغير من هذا الواقع تحسين مناخ الإستثمار مؤخرا من خلال من خلال السماح للقطاع الخاص بالعمل في قطاعات كانت حكرا على الدولة.
فشل ذريع في سياسة إحلال الواردات
تُظهر عدة معطيات تحسنا ملحوظا في تزويد السوق بمنتجات محلية كالحليب والألبان والبيض ولحم الدجاج ومواد البناء. غير أن ذلك لم يغير بشكل كبير من بينة التجارة الخارجية التي تدل مؤشراتها على فشل سياسة إحلال المستوردات في قطاعات أساسية كالسيارات والأغذية والآلات والمنتجات الكيميائية. ويدل على ذلك مثلا ارتفاع فاتورة المستوردات من الأغذية التي كان من المفترض تحقيق اكتفاء ذاتي منها في أكبر بلدان القارة الإفريقية مساحة. ففي عام 2019 على سبيل المثال زادات قيمة الواردات من الأغذية والسلع الاستهلاكية اليومية الأخرى على 14.5 مليار دولار، أي ما يعادل نحو ثلث قيمة الورادات.
وعلى ضوء تبعات جائحة كورونا واستمرار الأزمة الاقتصادية لم يُتوقع أن يكون الوضع أفضل خلال العام الماضي 2020 والفترة التي مرت من العام الجاري 2021. وتعد الجزائر اليوم أحد أكبر المستوردين للحبوب في العالم. وتتم صفقات الاستيراد عن طريق تجار وجهات مرتبطة بمسؤولين من صناع القرار في ظل ضعف فعالية أجهزة الرقابة التشريعية والقضائية التي لا تتمتع بالاستقلالية. وهو الأمر الذي يساعد على تفشي أشكال الفساد والمحسوبيات.
أما الأدلة على ذلك فكثيرة ومن أبرزها مؤخرا فضائح الفساد الكبرى التي طالت مصانع تجميع السيارات في الجزائر والتي أدت إلى سجن عشرات الأشخاص بينهم رؤوساء حكومات سابقة ووزراء صناعة سابقين ورجال أعمال متواطئين. وقد دفع القطاع المذكور ثمنا باهظا لهذه الفضائح تمثل في إغلاق مصانع السيارات الجزائرية التي كان من المفترض أن تصبح فخر الاقتصاد الجزائري. ومن تبعات ذلك تسريح الآف العاملين الذي أصبحوا عاطلين عن العمل في مختلف التخصصات.
الأزمة البنيوية وسبل تجاوزها
يساعد ارتفاع أسعار النفط مؤخرا من حوالي 50 إلى أكثر من 70 دولارا للبرميل على تخفيف الأزمة المالية، غير أن أزمة الاقتصاد الجزائري لا تحل بالمال لأنها بنيوية ومؤسساتية. ومن الأدلة على ذلك أن وفرة المال في أوقات الطفرة النفطية لم تصلح الاقتصاد ولم تساعد غالبية الجزائريين على تحسين أوضاعهم المعيشية.
ومن هنا فإن أي إصلاح حقيقي يقوم على إطلاق الطاقات المحلية الجزائرية وجذب الاستثمارات ونقل المعارف والخبرات المحلية والأجنبية وهو ما لن يتم دون تغيير هذه البنية وآليات عملها. ومما يعنيه ذلك تجاوز النظام السياسي الشمولي الذي يحتكر مفاتيح الاقتصاد الأساسية والانتقال إلى نظام تعددي ليبرالي تحميه مؤسسات تشريعية وقضائية ورقابية مستقلة. وهو أمر يدعمه أيضا الحراك الشعبي الذي أسقط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد احتجاجات صاخبة ضد النظام القائم وفساده وضد وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ابراهيم محمد