تحليل: شبح أزمة دولار في مصر.. كيف تريد الحكومة مواجهة ذلك؟
١٥ أكتوبر ٢٠٢٤تواجه مصر في الآونة الأخيرة تحديات جديدة في توفير العملة الصعبة، رغم الانفراج المؤقت الذي شهدته خلال الأشهر الماضية. وجاء القرار المفاجئ للبنك المركزي المصري بعدم توفير الدولار لاستيراد السلع الترفيهية، مثل السيارات والهواتف والمجوهرات، إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة، ليؤكد على تصاعد المخاوف بشأن أزمة دولارات جديدة تؤدي إلى صعوبة توفره حتى لتمويل استيراد سلع أساسية كمصادر الطاقة.
تحديات متزايدة وتوجهات جديدة
وفي سياق متصل دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى ترشيد النفقات والاستهلاك، محذرًا من أن مصر قد تضطر للتعامل مع أسماه "اقتصاد حرب" في حال نشوب أي صراع إقليمي. ويشير مدبولي بشكل خاص إلى الضغوط المتزايدة على الحكومة بسبب ارتفاع تكاليف استيراد السلع الأساسية، وخاصة الطاقة. ففي الأسبوع الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، ارتفع سعر برميل النفط بنسبة 10 بالمائة، مما يزيد من الأعباء على الاقتصاد المصري، الذي يستورد سنويًا موارد طاقة بقيمة تفوق 10 مليارات دولار. وإضافة إلى استيراد الغاز من إسرائيل تفيد معلومات بأن قسما كبيرا من الغاز الإسرائيلي يأتي إلى مصر، التي زادت مؤخرا من استيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامه في توليد الطاقة الكهربائية، حسب موقع منصة "الطاقة" الذي يتخذ من واشنطن مقرا له.
مخاوف متجددة من شح الدولار وأزمة طاقة
وخلال النصف الأول من العام الجاري ظهرت أزمة في توفير التيار الكهربائي على مدار الساعة بسبب نقص العملة الصعبة اللازمة لاستيراد مصادر الطاقة اللازمة لتوليده وعلى رأسها الغاز. وهو الأمر الذي تسبب بانقطاع التيار وتقنين الاستهلاك لعدة ساعات يوميا في مناطق مختلفة من البلاد. واليوم وبعد بضعة أشهر على توفير العملة الصعبة اللازمة للاستيراد بفضل تدفق أموال كبيرة بفضل صفقات واتفاقات مع الإمارات وصندوق النقد الدولي والسعودية والاتحاد الأوروبي تتجدد المخاوف من نقص الأموال اللازمة مجددا في حال استمرار ارتفاع الأسعار العالمية للنفط والغاز وزيادة الطلب عليهما مع الدور المتزايد للصناعة والتغيرات المناخية التي تزيد من ارتفاع درجات الحرارة. الجدير ذكره أن مصر تحولت من بلد مصدر للغاز في عام 2022 إلى بلد مستورد له منذ العام الماضي لعدة أسباب أبرزها تراجع الإنتاج من 3 إلى أقل من 2 مليار متر مكعب في حقل "ظهر" للغاز في البحر المتوسط والذي يُعد أكبر حقل غاز في مصر.
لماذا المخاوف رغم صفقات ضخمة مع الخارج؟
قد يقول قائل كيف يمكن أن تحصل أزمة دولارات في مصر مجددا رغم أن البلاد تمكنت من حشد نحو 57 مليار دولار إضافية من مصادر خارجية هذه السنة حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية. وجاء القسم الأكبر من هذه الأموال، نحو 35 مليارا، نتيجة صفقة مع الإمارات لإقامة مشروع سياحي ضخم في منطقة رأس الحكمة شمال البلاد. أما الإجابة على ذلك فإن الأزمة مرشحة للحصول مجددا لأن هذه الأموال مخصصة لأغراض أخرى قد يكون آخرها تمويل الأعباء الإضافية الناجمة عن ارتفاع تكاليف الاستيراد. ومن بين هذه الأغراض تنفيد مشاريع بنية تحتية متفق عليها ودفع عملية الإصلاح الاقتصادي كشرط لتقديم الدفعة الجديدة من قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار. ومن الالتزامات الأخرى الضاغطة على الحكومة المصرية دفع أقساط وفوائد الدين الخارجية التي تتراوح سنويا بين 10 إلى 13 مليار دولار. وهناك فجوة العجز المزمن في الميزان التجاري التي زادت على 19 مليار دولار خلال العام الماضي 2023. يضاف إلى ذلك استمرار السوق السوداء للدولار وانتعاشه من فترة لأخرى رغم استقرار غير مسبوق في سعر الجنيه المصري تجاهه منذ أواسط الصيف الفائت.
أولويات الحكومة وترشيد الاستيراد
وعلى ضوء ذلك وفي ظل ارتفاع الأسعار العالمية ومعها تكاليف الاستيراد يأتي قرار البنك المركزي المصري وتصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي التي يُستنتج منها أن أولوية صرف الاحتياطات المتوفرة بالدولار والعملات الصعبة الأخرى ليست لاستيراد السلع الكمالية، وإنما للسلع الأساسية وعلى رأسها مصادر الطاقة التي تعد عصب الحياة اليومية للاقتصاد والناس. والمقصود بالسلع الأساسية الأخرى بالطبع الأغذية والأدوية، لاسيما وأن المخاوف تتزايد من ارتفاع أسعارها مجددا. ويعود السبب في ذلك إلى التغيرات المناخية التي يصاحبها ازدياد وتيرة الجفاف والفيضانات عبر العالم. وهو الأمر الذي أصاب بقوة بلدانا كالهند والبرازيل والصين، وهي بلدان رئيسية منتجة ومصدرة لمحاصيل زراعية ومواد غذائية حيوية كالقمح والذرة والأرز واللحوم. ويزيد هذا الأمر من ضرورة الحفاظ على الاحتياطي النقدي بالدولار قدر الإمكان تحسبا لأي طارئ محتمل.
المراهنة على سياسة إحلال الواردات
ومع الإقرار بشبح أزمة دولارات مجددا تتجدد المخاوف من نقص العملة الصعبة اللازمة لاستيراد موارد الطاقة بشكل يغطي حاجة السوق المحلية. وعلى هذا الأساس كثر الحديث مؤخرا عن اتخاذ إجراءات الهدف منها جعل سياسة إحلال الواردات أكثر فاعلية من ذي قبل. ومما تعنيه هذه السياسة استبدال المنتجات المستوردة بمنتجات محلية الصنع بهدف تقليل الاعتماد على السلع الأجنبية وتقليص الحاجة إلى الدولار لتمويل الاستيراد. وفي هذا الإطار أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في عام 2022 المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة المصرية "ابدأ" بهدف توطين وتطوير الصناعات المصرية وتقليل الاعتماد على الاستيراد. وفي 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري دعا السيسي مجددا إلى تصنيع نسبة كبيرة من المنتجات في مصر لتجاوز ما اسماه "تحدي الدولار". واستعرض الرئيس على هامش افتتاح أحد المشروعات بمحافظة الجيزة بعض السلع التي يتم استيرادها بمبالغ كبيرة كالهواتف الذكية بقيمة 9 مليارات دولار، والسيارات بمبلغ 25 مليار دولار ومستحضرات التجميل والعطور بنحو مليار دولار، مضيفا بالعامية المصرية "وبتلوموني وتقولوا لي الدولار غِلي ليه".
ما أهمية إحلال الواردات؟
تشير خبرة السنوات القليلة الماضية إلى توسيع نطاق الإنتاج المحلي في أكثر من مجال مثل بعض مكونات السيارات غير المعقدة، والأجهزة المنزلية كالثلاجات والغسالات وأجهزة التكييف، والصناعات الكيماوية كالأسمدة والمبيدات والصناعات النسيجية وصناعة الأقمشة والمفروشات. غير أن إحدى مشاكلها الأساسية تكمن في ضعف مستوى الجودة وصعوبة منافستها لمثيلتها المستوردة. ومما يتطلبه ذلك اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تجاوز هذه المشكلة ومزيدا من التوسع في الإنتاج المحلي لمختلف السلع. ويأتي على رأس إجراءات كهذه تحسن جوهري في مناخ الاستثمار اللازم لجذب الاستثمارات الأجنبية المستدامة في مجال الإنتاج وإصلاح عميق في الجهاز الإداري المنظم والمشرف على المشاريع الصناعية والمكملة لها.
إن نجاح سياسة إحلال الواردات وترشيد الاستهلاك في كل الأحوال يشكل جزءا من الحل الذي يتطلب المزيد من الإصلاحات الاقتصادية الجريئة لمواجهة الضغوط الاقتصادية المتزايدة ليس بسبب التوترات الجيوسياسية وارتفاع الأسعار العالمية وحسب، بل بسبب الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري واستمرار ضعف أدائه في توفير السلع الأساسية للسوق المصرية.