تونس تتلمس الطريق لتجاوز فوضى ما بعد ثورة الياسمين
٤ مارس ٢٠١١وصف باجي قائد السبسي رئيس الحكومة التونسية المؤقتة، في أول مؤتمر صحافي يعقده إثر تعيينه خلفا لسلفه المستقيل محمد الغنوشي، الوضع الاقتصادي في تونس بأنه على "شفيرالهاوية" وبأن أولويات حكومته ستكون" إعادة فرض سلطة الدولة التي تراجعت إلى مستوى غير مقبول" معتبرا أن هذا الهدف يتحقق عبر"إعادة الأمن لكل المواطنين والمناطق والمؤسسات".
وفي مؤشر على ملامح انفراج في الأزمة السياسية والأمنية التي أعقبت ثورة الرابع عشر من يناير(شباط) الماضي، بدأ المعتصمون من شباب الثورة مساء الجمعة(04 مارس/آذار) بإخلاء ساحة القصبة أمام مقر الحكومة، حيث كانوا يعتصمون بها منذ ستة أسابيع من أجل المطالبة بإنهاء ما يصفونه ببقايا نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعلى رأسها حكومة محمد الغنوشي المستقيلة. وجاء قرار تعليق الاعتصامات من قبل شباب الثورة إثر خطاب ألقاه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع مساء يوم الخميس أعلن فيه عن انتخاب مجلس تأسيسي سيتولى وضع دستور جديد في البلاد وإحداث قطيعة مع نظام الرئيس بن علي.
ويرصد المتتبعون للأوضاع الأمنية في تونس استمرار حالة الانفلات الأمني وعدم انتظام في الحياة الاجتماعية والادارية، إذ ما تزال مرافق وخدمات عديدة معطلة، والأسباب متعددة كما يقول مسؤولون وخبراء.
فوضى غير مسبوقة في قلب العاصمة
تطالع الصحف التونسية بشكل شبه يومي القرّاء بأخبار حول مظاهر الفوضى (عمليات البلطجة والنهب والتخريب والإضرابات والاعتصامات) التي اجتاحت تونس بعد "الثورة" وطالت مرافق عامة وخاصة بمختلف أنحاء البلاد. مئات من البلطجية مسلحين بالهراوات والسكاكين والحجارة عاثوا فسادا يوم 26 فبراير/شباط الماضي في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي، الذي يعتبر واجهة العاصمة تونس، إذ نهبوا وخرّبوا محلات وفضاءات تجارية راقية ومراكز أمن، وأحرقوا وهشّموا سيّارات خاصة وأخرى تابعة للشرطة ما اضطر رجال الأمن إلى استعمال الرصاص فأردوا 5 من المشاغبين قتلى.
نبيل يعمل منذ سنوات طويلة نادلا في مقهى بشارع الحبيب بورقيبة، قال لدويتشه فيله إن هذا الشارع الذي يوجد فيه مقر وزارة الداخلية التونسية "فقد هيبته لأنه لم يشهد في السابق مثيلا لهذه الأحداث". ولاحظ أنه حتى عشرات الآلاف من التونسيين الذين خرجوا يوم 14 يناير/كانون ثان في شارع الحبيب بورقيبة في مظاهرة عارمة أطاحت يومها ببن علي "كان تحركهم حضاريا وسلميا ولم يصدرعنهم أي سلوك خارج عن الموضوع".
المتحدث انتقد من ناحية أخرى نصب مئات من المعتصمين الذين يطالبون بإسقاط الحكومة المؤقتة خياما أمام مقر الحكومة (وسط العاصمة) مذكرا بأن "لا أحد كان يجرؤ في عهد المخلوع حتى على مجرّد التوقف أمام باب الحكومة".
ومن جهتها انتقدت وزارة الداخلية التونسية في بيان أصدرته مؤخرا "تعمّد" بعض المواطنين "الاستيلاء على عقارات ومحلات سكنيّة على ملك الخواص أو على ملك الدولة ومؤسّساتها.. والشروع في إقامة مبان (منازل ومحلات تجارية) على أراض دون أن تكون لهم صفة أو ترخيص في البناء". ودعت كل المخالفين إلأى الكف فورا عن مظاهر الفوضى، وحذرت من عقوبات قانونية قد تطالهم.
وحول تفسيرها لمظاهر الفوضى وجهت وزارة الداخلية أصابع الاتهام لما وصفته ب"انتهازالمخالفين لانشغال السّلطات المركزية والجهويّة والمحلية"في مجابهة إشكاليات الوضع الراهن للإقدام على هذه الأعمال التي تمثل "انتهاكا صارخا لقيم ثورة الشعب التونسي وأهدافها النبيلة" وقالت إنها "لن تسمح لأيّ كان أن يستغلّ الثورة لتحقيق أغراض ومآرب يمنعها القانون الذي يبقى فوق الجميع في كل الحالات والظروف".
الطبيعة والمساجد لم تسلم
الفوضى امتدت إلى دور العبادة مع بروز ظاهرة إنزال مصلّين بالقوّة لأئمة من منابرهم، ويوصفون بأنهم محسوبون على نظام بن علي، ويتم تعويضهم بآخرين مزجوا في خطبهم الدين بالسياسة بعد أن كان الخوض في السياسة داخل المساجد والجوامع من المحظورات في عهد بن علي.
وزارة الشؤون الدينية (الأوقاف) عبرت عن قلقها من هذه الظاهرة ودعت المصلين إلى "احتـرام المنبر الدّيني ووضع حدّ لظاهرة "خلع" الأئمة من منابرهم...احتراما لحرمة بيوت الله". وتعهدت الوزارة بأن "تأخذ بعين الاعتبار مطالب" المصلين، وحثت الوزارة القيِّمين على الشؤون الدّينية التابعين للوزارة في مختلف مناطق البلاد إلى "تعويض الأئمة المستقيلين أو الذين تمّ خلعهم من المنابر بكفاءات تتّسم برفعة الأخلاق وبالأهليّة العلميّة" قائلة إن "الأولويّة في الانتداب تبقى لحاملي الشهادات العليا من خرّيجي جامعة الزّيتونة".
الطبيعة لم تسلم بدورها من فوضى ما بعد الثورة. وقد دعت جمعية "تونس المتوسط للتنمية المستدامة" في فبراير/شباط السلطات إلى التدخل العاجل والسريع من أجل وضع حد لحالة الفوضى والانفلات التي طالت حدائق ومحميات طبيعية وغابات بعدد من مناطق البلاد.
وذكرت الجمعية أن سكانا أزالوا سياجا بطول 5ر10 كيلومترا كان يرسم حدود محمية "بوهدمة" التابعة لمحافظة سيدي بوزيد (وسط) وآخر بطول 20 كيلومتر في محمية "الشعانبي" بمحافظة القصرين (غرب) ليفسحوا المجال لأغنامهم وأبقارهم حتى ترعى في المحميتين. الجمعية قالت إن مخالفين قطعوا عديد الأشجار النادرة لاستعمال حطبها في التدفئة أو المتاجرة بخشبه وأن صيادين استغلوا حالة الفوضى لصيد كثير من الطيور والحيوانات البرية التي يحظر القانون صيدها.
"ثورة مضادة"
الوزير الأول محمد الغنوشي الذي استقال من منصبه يوم 28 فبراير/شباط الماضي حذّر من أن 10 آلاف تونسي فقدوا وظائفهم بسبب الإضرابات عن العمل والمطالب النقابية بالرفع من الأجور وأعمال النهب والتخريب التي تعرّضت لها عديد مراكز العمل بالقطاعين العام والخاص.
وأبدى الغنوشي استغرابه من أن موظفين بالقطاعين العام والخاص لديهم وظائف ثابتة ويعتبرون "محظوظين" مقارنة بغيرهم، حوّلوا "الثورة" التي أطلقها عاطلون عن العمل ومهمّشون في جهات محرومة بالبلاد للمطالبة بحقهم في الشغل والكرامة، إلى "ثورة للمطالبة بالزيادة في الأجور". وقال الغنوشي إن "أطرافا" لم يسمّها تعمل على "ضرب الاقتصاد" التونسي "لإفشال ثورة الشعب" وأن القضاء سيكشف قريبا عن هذه الأطراف "ويقول كلمته فيها" داعيا التونسيين إلى الحفاظ على الأمن والنظام ونبذ الفوضى والعنف".
ومن جهته يرى الباحث الاجتماعي طارق بلحاج محمد بجامعة تونس، إن "هناك جهات سياسية تمثل جزءا من الثورة المضادة وما زالت في مواقع القرار السياسي والإداري والمالي تستثمر في هذه الفوضى وتحرض عليها لأنه ليس من مصلحتها استقرار الأوضاع". وفي حوار مع دويتشه فيله اعتبر الباحث الاجتماعي هذه القوى "تخشى أن يفتح عليها استقرار الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية الباب لمحاسبتها ولهذا تعمل جاهدة من خلال مسؤوليها ومالها وإعلامها وعصاباتها على زعزعة الاستقرار والتشجيع على ذلك".
ومن جهته كشف الوزير الأول المستقيل، إنه تعرض إثر الاطاحة بالرئيس بن علي، إلى ضغوط من جهات لم يسمها، وأكد أن من يرتكبون أعمال عنف ليسوا من المتظاهرين والمعتصمين من شباب الثورة، بل هم عناصر "مندسَّة" وغالبا ما يشار بهذه العبارة إلى عناصر الحزب الحاكم السابق وبقايا نظام بن علي وعناصره الأمنية.
خلفيات اجتماعية ونفسية
وبرأي الباحث الاجتماعي طارق بالحاج محمد فإن تفسير ظاهرة الفوضى لا تقتصر على الأسباب السياسية بل هنالك عوامل نفسية واجتماعية. وأوضح ان "قيام الدولة التونسية لأكثر من 50 سنة على الرقابة والزجر الأمني وتعطيل المصالح والفساد الإداري... جعل الناس أكثر استعدادا وقبولا وحاجة للقهر على حساب الوازع الأخلاقي والمدني". وأضاف:"يؤدي غياب مظاهر السلطة والقهر إلى الانفلات نظرا لغياب مظاهر الأمن في رمزيته وحضوره المباشر للعيان وكلما طالت فترة الانفلات إلا والتحقت فئات جديدة بالسلب والنهب والتجاوزات، بالإضافة إلى ثقافة الانتهازية المستشرية ماضيا وحاضرا في المجتمع".
الباحث أشار إلى أن "الثورة فتحت الأعين على حجم كبير من الفساد والتجاوزات طالت جميع الطبقات والجهات والمؤسسات والنخب وهذا ما يعطي للأشخاص العاديين مبررا لتبرير تجاوزهم ذلك". وبحسب الباحث فإن مرتكبي التجاوزات يقولون في قرارة أنفسهم "إذا كانت نخبنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية فاسدة وبما أن الفساد تحول إلى ثقافة فلماذا يقع استثناؤنا أو لومنا نحن وحتى ولو وجبت المحاسبة فالبداية يجب أن تكون بالكبار وليس بالصغار".
وذكر أن "الإحساس بالغبن والتهميش لدى فئة واسعة من الأشخاص وخاصة ذوي المستوى التعليمي والاقتصادي الهش يجعل البعض يتصرف بوازع أناني وانتقامي لأنهه يتصور أن عجز الدولة عن تمكينه من حقوقه لمدة عقود وقلة ثقته في الحكومات المستحدثة تعطيه المبرر أن يأخذها بالطريقة التي يراها مناسبة".
منير السويسي - تونس
مراجعة: منصف السليمي