جلبير الأشقر: "إنكار المحرقة يسيء في النهاية إلى القضية الفلسطينية"
٢٩ مايو ٢٠١٠أسئلة عديدة يثيرها الباحث اللبناني الأصل جلبير الأشقر في دراسته الأكاديمية التي صدرت بالفرنسية لدى دار "أكت سود" قبل أن تترجم حديثاً إلى الانكليزية والعربية. وتبدأ هذه الأسئلة من العنوان نفسه: "العرب والمحرقة النازية – حرب المرويات العربية الإسرائيلية ". هل يقصد الباحث أن العرب شاركوا في إبادة اليهود وتعاونوا مع النازيين في المحرقة؟ وما حجم تلك المساهمة إن كانت قد حدثت؟ وما حقيقة الدور الذي لعبه مفتي القدس آنذاك أمين الحسيني؟ أم أن المقصود أن بعض العرب كانوا أيضاً ضحايا للهولوكوست؟ ولماذا ينكر البعض في العالم العربي حدوث المحرقة أو يشككون في عدد الضحايا؟ هذه وغيرها هي الأسئلة التي يجيب عليها الأشقر في دراسته الموضوعية الرصينة التي صدرت ترجمتها العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة ودار الساقي البيروتية. وقد يكون هذا الكتاب هو أول دراسة شاملة يقوم بها مؤرخ عربي لتوضيح علاقة العرب – على اختلافهم – بالمحرقة. وهي دراسة تعتبرها الباحثة أولريكة فرايتاغ، مديرة معهد الشرق الحديث في برلين، "دراسة مهمة جداً، نظراً للمعلومات الواردة فيها من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تبدأ مناقشة الموضوع في العالم العربي".
"العرب" لا وجود لهم
العرب غير موجودين"، هكذا يقول جلبير الأشقر في مستهل كتابة، ويضيف: "غير موجودين كذات سياسية أو إي ديولوجية متجانسة". رغم ذلك هناك دراسات عديدة تتحدث عن "العرب"، مثلما تتحدث عن "المسلمين" و"اليهود"، وهو أمر – يقول الأشقر – "لا وجود له إلا في الخيال". ولذلك يسعى الأشقر إلى توضيح تباين مواقف "العرب" من النازية والصهيونية. ويقسم الأشقر المواقف العربية من المحرقة النازية إلى أربعة تيارات مختلفة، وهي: الموقف الليبرالي، والماركسي، والقومي، والسلفي، موضحاً أن تلك المواقف تراوحت بين الإدانة الصريحة للنازية من ناحية، والمعاداة الصريحة لليهود من ناحية ثانية. فقد تبنى الليبراليون والماركسيون موقفا واضحاً إزاء المحرقة، حيث أدانوها وأكدوا على التفريق بين اليهودية والحركة الصهيونية؛ في حين أُعجب بعض القوميين العرب بالنموذج النازي والفاشي وسعى إلى اقتباسه، أما التيار السلفي فقد تبنى خطاباً معادياً لليهود مستنداً على تفسيراته الخاصة لبعض الآيات القرآنية إضافة إلى نصوص معادية للسامية مثل بروتوكولات حكماء صهيون.
ويحاول الأشقر في كتابه تجاوز ما يسميه بـ"الصيغ الكاريكاتورية" وتصحيح الصور النمطية التي تحيط بهذا الموضوع، ومنها مثلاً اتهام العرب بالتورط المباشر مع النازية، وبالتالي المشاركة في المحرقة. ويعلل المؤيدون لهذه النظرية ذلك بالعلاقة الوثيقة التي ربطت مفتى القدس آنذاك، أمين الحسيني، بقادة النازية وعلى رأسهم أدولف هتلر، معتبرين أن موقف الحسيني يثبت تورطه المباشر في عملية الإبادة المنهجية التي تعرض لها اليهود؛ كما يرون أن موقفه ينسحب على موقف معظم العرب.
وضع المفتي في سياقه التاريخي
في حديثه مع موقعنا يوضح جلبير الأشقر أن تعاون المفتي مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية خلال الحرب العالمية الثانية "موثق ومعروف"، كما أنه من المعروف أيضاً أن المفتي "قام بدور مهم في الدعاية للنازية والفاشستية في العالمين العربي والإسلامي، واشترك في الحملة العنصرية النازية ضد اليهود، وساهم في إنشاء كتيبتين من المسلمين في البوسنة ليحاربوا مع القوات النازية". غير أن هذا الدور، يقول الأشقر، كان محدود التأثير وموضع إدانة – حتى آنذاك - من جانب بعض القوميين العرب.
هذا الرأي تؤيده أولريكه فرايتاغ التي تقول "إن المهم جداً أن نفهم المفتي في سياقه التاريخي"، كما أنه من المهم التفرقة بين موقف الفلسطينيين الذين عانوا من الهجرة اليهودية إلى وطنهم، وبين مواقف العرب في الدول المجاورة لفلسطين أو في الجزيرة العربية أو في المغرب. وتشير فرايتاغ إلى أن "أقلية من العرب" كانت تشارك المفتي آنذاك آراءه المؤيدة للنازية. هذا ما يدفع الأشقر إلى انتقاد "المبالغة الشديدة" التي يُصور بها دور أمين الحسيني، مشيراً إلى أن موسوعة الهولوكوست التي أصدرها متحف "ياد فاشيم" في إسرائيل تخصص لمفتى القدس ثاني أطول مقالة بعد هتلر، وكأنه يتحمل مسؤولية مباشرة عن المحرقة.
فلسطينيون ومغاربة يحاربون مع الحلفاء ضد النازيين
وكمثال على ذلك يذكر الأشقر أن عدد العرب الذين حاربوا في صفوف المحور النازي الفاشستي لم يكن يتعدى ستة آلاف وبضع مئات، بينما كان عدد الفلسطينيين وحدهم الذين حاربوا في صفوف الجيش البريطاني ضد النازيين – وليس عدد العرب جميعاً – يصل إلى تسعة آلاف. فإذا أخذنا عدد العرب من كافة الأقطار العربية في الحسبان، فسنصل إلى رقم كبير؛ مثلاً كان هناك ربع مليون من المغاربة العرب والبربر الذين شاركوا مع القوات الفرنسية الديغولية. "هذا يبين"، يقول الأشقر، "أن صدى الدعاية التي قام بها المفتي كان ضئيلاً جداً. هناك كتب تصدر بكافة اللغات تريد أن تقنعنا أن العرب كانوا أنصاراً للنازية، وهذا افتراء". لكن الأشقر يدين في الوقت ذاته "التواطؤ الإجرامي" الذي جمع المفتي مع النازيين.
وحول هذه النقطة تقول فرايتاغ: "لا بد أن نقول إن المحرقة جريمة ألمانية، وليست جريمة العرب أو الغير". وتؤكد الباحثة الألمانية أن التعاون السياسي خلال وجود المفتي في أوروبا كان بالفعل محدوداً، حتى بالمقارنة بتأثير كثير من الساسة، وتضيف قائلة: "صحيح أن المفتي يتفاخر بتجنيد الكثيرين من المسلمين إلى جانب ألمانيا، ولكن هذا الكلام غير صحيح. المفتي كان يؤيد النازية، ولكنه لم يكن من المسؤولين عن الهولوكوست."
الشارع العربي معجب بهتلر حتى اليوم – لماذا؟
ويبين كتاب الأشقر أن كثيرين تعاطفوا في العالم العربي مع النظام النازي من منطلق أن عدو عدوي هو حليفي، أي أنهم اعتبروا التحالف مع الألمان يصب في مصلحة العرب أثناء صراعهم مع الانكليز والفرنسيين. غير أن المؤلف ينفي انتشار الأفكار النازية في العالم العربي. كيف نفسر، إذن، إعجاب الشارع العربي بهتلر حتى اليوم؟ لماذا كان المتظاهرون في القاهرة يهتفون "إلى الأمام يا روميل" خلال الزحف النازي على العلمين؟ هل يمكن تفسير هذا الحماس فقط بمبدأ "عدو عدوي هو حليفي" أم أن هناك أسباباً أخرى؟
يعتقد الأشقر أن هناك مبالغة في هذه النقطة أيضاً: "صحيح أن جزءاً من الرأي العام كان يعتقد – بكثير من السذاجة السياسية – أن هتلر بطل، وهو ما حدث في دول أخرى كانت ترزح تحت الاحتلال البريطاني مثل الهند، غير أن غالبية الرأي العام العربي – هكذا يقول المؤرخون الجادون – لم تكن مع هذا أو ذاك، بل كانت ترى أن الصراع يحدث بين قوى غربية تريد أن تتقاسم العالم، ولا يتمنى العربي من هذا الصراع سوى استقلال منطقته." وتوافق الباحثة الألمانية الأشقر على رأيه وتقول: "أعتقد أن هذه الأطروحة صحيحة. الدافع الأصلي والأول لتأييد ألمانيا هو بالفعل العداوة للقوى الاستعمارية في العالم العربي. ولكن في نفس الوقت لا بد من الاعتراف بأن فئات معينة في العالم العربي كانت تتفق مع بعض أو كثير من الأفكار النازية." وتشير فرايتاغ هنا إلى أن بعض الأفكار النازية التي تدعو إلى الوطنية وحسن التنظيم كانت منتشرة في العالم كله، ومنه العالم العربي.
"عندما طُرد اليهود من إسبانيا، إلى أين لجأوا؟"
وإذا كانت أوروبا قد عرفت تاريخاً طويلاً من معاداة السامية فإن الوضع مختلف بالنسبة للعالم العربي. "معاداة اليهود"، يؤكد الأشقر، "لم تكن قائمة في المنطقة العربية قبل مشكلة فلسطين"؛ فمن المعروف أن وضع اليهود في العالم الإسلامي بشكل عام كان أفضل بكثير منه في العالم المسيحي. "عندما طُرد اليهود من إسبانيا، إلى أين لجأوا؟ إلى البلدان الإسلامية، من المغرب حتى تركيا". ويشدد الأشقر على أن تقليد اللاسامية هو بالأساس تقليد غربي. أما انتقال بعض أشكال اللاسامية إلى المنطقة العربية فمرتبط "ارتباط وثيق لا ينفصم عن قضية فلسطين وسلوكيات دولة إسرائيل".
وترى أولريكه فرايتاغ أن اليهود كانوا يعيشون في العالم الإسلامي مثلهم مثل المسيحيين خلال فترة الحكم الإسلامي، أي حتى منتصف القرن التاسع عشر. كانوا يُعتبرون من أهل الذمة، وبالتالي تمتعوا بحماية المسلمين. "يمكن القول"، تضيف الباحثة الألمانية، "إن اليهود عاشوا في العالم العربي تقريباً حتى الثلاثينات في هدوء. طبعاً تغيرت الصورة في فلسطين مع بداية الهجرة اليهودية إليها، وخاصة بعد وعد بلفور عام 1917. أما بالنسبة لليهود الذين كانوا يعيشون من قبل في فلسطين، فقد ظلوا يعيشون هناك بدون مشاكل حتى الثلاثينات تقريباً". غير أن تأسيس دولة إسرائيل غيّر شكل الحياة اليهودية حيث بات العرب يعتبرون اليهود ممثلين لدولة إسرائيل، و"لذلك بدأت الهجرة إلى إسرائيل، أحيانا طواعية، وأحياناً نتيجة للاعتداءات عليهم، وأحياناً نتيجة لدعوة دولة إسرائيل لليهود العرب".
إنكار المحرقة – لماذا؟
ويشير الأشقر في كتابه إلى أن البعض ينكر المحرقة وينظر إليها على أنها "أسطورة" استخدمت لتأسس دولة إسرائيل. مَن يفعل ذلك يتجاهل الواقع والوقائع، كما يتجاهل أن الذين بذلوا أقصى الجهود لإسماع الغرب صوت الفلسطينيين هم مفكرون "يستندون تحديداً إلى الدروس الإنسانية العامة للمحرقة"، كما أن عديدين من هؤلاء المفكرين، إن لم يكن معظمهم، يهود. ولكن لماذا ينتشر – إذن - إنكار المحرقة في العالم العربي في الوقت الحالي؟ ولماذا يتعاطف كثيرون مع منكري الهولوكوست من أمثال روجيه غارودي؟ الأشقر يرجع ذلك إلى أن كتاب غارودي – على سبيل المثال - جاء في ظرف شهد توترات حادة على الصعيد العربي بعد اجتياح لبنان وبعد قمع الانتفاضة الأولى، وبعد أن دخلت عملية السلام في طريق مسدود. "هذا ما سهل انتشار هذا النوع من المواقف التي تسيء في النهاية إلى القضية الفلسطينية".
ويوافق الأشقر على أن هناك إنكاراً متنامياً للمحرقة في العالم العربي، غير أنه يضيف: "نعم، ولكن مثل موضوع المفتي: يجب ألا نصور هذا الموقف وكأنه موقف العرب جميعاً" ويؤكد الأشقر أن الغالبية في العالم العربي لا تهتم بموضوع إنكار المحرقة، وأن "الموقف العقلاني الذي يعترف بأن المحرقة شيء فظيع ولا إنساني وأليم هو موقف الغالبية". ويشير المؤلف إلى أن مفتى القدس نفسه، أمين الحسيني، يعترف بالمحرقة في مذكراته عندما روى ما حدث خلال لقائه بقائد سلاح الإس إس، هاينريش هيملر، في صيف 43. ويستشهد الحسيني في مذكراته بقول هيملر بأنه تم إبادة 3 ملايين يهودي حتى تلك السنة.
البعض ينكر المحرقة عن جهل
وتشير أولريكه فرايتاغ إلى إن الإسرائيليين "يعودون دائماً إلى الهولوكوست كإحدى الأفكار الأساسية لتأسيس الدولة"، ولذلك فإنكار المحرقة من الطرق التي تستخدم للدعاية ضد دولة إسرائيل، لأن منكري المحرقة يعتقدون أنهم عندما يفعلون ذلك يسلبون إسرائيل أحد أهم دعائم شرعيتها. وترى فرايتاغ أن هناك سبباً آخر يدفع البعض إلى إنكار المحرقة، وهو عدم وجود المعلومات الكافية عن الهولوكوست في كثير من البلدان العربية. وهذه – تحديداً - هي الفجوة التي يسدها كتاب جلبير الأشقر الشامل والوافي عن العلاقة المعقدة بين العرب – على تنوعهم - والمحرقة النازية.
الكاتب: سمير جريس
مراجعة: هيثم عبد العظيم