حصري لـDW: من جلادين في أقبية التعذيب إلى قوات حفظ السلام
٢٢ مايو ٢٠٢٤في بعض الأحيان يبدأ البحث الصحفي بصورة تبدو للوهلة الأولى عادية. في هذه الحالة مجموعة من النساء والرجال يرتدون الزي العسكري يقفون أمام الكاميرا. صورة ذاتية (سيلفي) التقطت بشكل منحرف قليلا، دون إظهار أقدام الجنود.
جرى التقاط الصورة، وفقا لبحثنا، في عام 2022، عندما كان الجنود من مصر وبنغلاديش وإندونيسيا قد أنهوا للتو دورتهم التمهيدية لمهمة الخوذ الزرقاء في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
حقيقة أن الصورة ليست ضارة كما تبدو ترجع إلى وجود رجل أصلع في منتصف المجموعة. تنعكس الشمس في نظارته ويلتف ذراعه بشكل عرضي حول كتف جندي آخر. هذا الرجل هو السبب وراء تسريب هذه الصورة لفريق التحقيق الاستقصائي.
قبل إرسال الرجل في المهمة التابعة للأمم المتحدة، كان يشغل منصبا مختلفا تماما: نائب مدير قسم الاستخبارات في كتيبة العمل السريع. وهي من وحدات النخبة في بنغلاديش.
ووفقا لبحث نشرته DW العام الماضي، بالتعاون مع منصة "نيترا نيوز" للتحقيقات الصحفية، فإن هذه الوحدة مسؤولة عن عمليات الإعدام والتعذيب. وقد تمت الموافقة على الأمر برمته، أو على الأقل موافقة ضمنية، من قبل كبار المسؤولين الحكوميين. وهو الاتهام الذي رفضته وزارة الداخلية البنغلاديشية بغضب في رد أرسلته لـ DW و"نترا نيوز"، ووصفته بأنه "مفتعل وملفق وذو دوافع سياسية".
ما لا يقل عن 40 من أعضاء كتيبة العمل السريع صاروا من قوات حفظ السلام
من الواضح أن أعضاء "فرقة القتل" هذه، كما أطلق أحد محاورينا صراحة على "وحدة النخبة"، يتم إرسالهم من قبل بنغلاديش بشكل منهجي في مهام تابعة للأمم المتحدة. هذه هي نتيجة بحث جديد أجرته DW و"نترا نيوز" وصحيفة "زود دويتشه".
قمنا طوال أشهر بفحص وثائق عسكرية سرية، وتحدثنا إلى مصادر* في بنغلاديش والأمم المتحدة، وقمنا بتقييم الملفات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. وتمكنا من التحقق من هوية الرجل الذي في الصورة من خلال مسارات تحركه اليومية في بانغي، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى. كما تعرفنا على جندي آخر موجود على الصور الرسمية لحفل توزيع أوسمة.
في المجمل، تمكنا من التعرف على أكثر من 100 جندي، من بينهم 40 جنديا خدموا خلال السنوات الخمس الماضية في كتيبة العمل السريع، قبل أن يصبحوا جنود حفظ سلام في مهام الأمم المتحدة.
كان ثلاثة منهم مثيرين للاهتمام بشكل خاص، لأنهم عملوا في قسم المخابرات في كتيبة العمل السريع. واثنان منهم كنائبين لمدير هذه الوحدة.
وأكدت عدة مصادر أن جهاز المخابرات هناك يحتفظ بشبكة سرية من زنازين التعذيب في بنغلاديش. وفيها، كما يقول أحد المخبرين العسكريين، "يتم إجبار المدنيين على الكلام". وقد تحدث لنا العديد من الأشخاص الذين قابلناهم عن أشكال التعذيب مثل الإيهام بالغرق والصدمات الكهربائية وعمليات الإعدام الوهمية.
تقرير الأمم المتحدة: استبعاد أعضاء كتيبة العمل السريع من البعثات
ومع ذلك، فقد أرسلت بنغلاديش هؤلاء الرجال الثلاثة وغيرهم من أعضاء كتيبة العمل السريع السابقين، ليكونوا من ذوي الخوذ الزرقاء. رغم أنه كانت هناك تحذيرات صريحة. فقد كتبت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وهي لجنة من الخبراء المستقلين، في تقرير عام 2019 عن "قلق عميق" بشأن "التعذيب والاعتقالات التعسفية والاحتجاز غير الموثق والقتل خارج نطاق القانون" من قبل قوات الأمن البنغلاديشية.
لم يستخدم معدو التقرير هذا المصطلح "باستخفاف"، كما يتذكر ينس مودفيغ، الذي كان عضوا في لجنة مناهضة التعذيب في ذلك الوقت. وقدمت اللجنة توصية واضحة باستبعاد أعضاء كتيبة العمل السريع من بعثات السلام.
ومع ذلك، تم إرسال جميع الجنود، الذين حددت DW و"نترا نيوز" وصحيفة "زود دويتشه" هويتهم، بعد نشر تقرير اللجنة الأممية. ويبدو أن التحذيرات الصادرة من داخل الأمم المتحدة قد تم تجاهلها.
الأمم المتحدة تترك الأمر للبلدان لفحص قواتها الأمنية
السبب يكمن في عملية الاختيار في منظمة الأمم المتحدة، حيث يُترك الأمر للبلدان المساهمة بقوات لاختيار الجنود وفحصهم. وعلى الرغم من أنه يتعين على الحكومات المعنية أن تؤكد عدم علمها بجرائم حقوق الإنسان، إلا أنه لا يتم التحقق من المعلومات إلا نادرا. ولا تقوم الأمم المتحدة، مع استثناءات قليلة، إلا بالتحقق من كبار القادة ونوابهم.
وكتب متحدث باسم الأمم المتحدة لـ DW و"نترا نيوز" وصحيفة "زود دويتشه" أن الغالبية العظمى من القوات تقوم بعمل جيد وأن الأمم المتحدة لا تملك المعلومات أو الموارد للتحقق من جميع القوات العاملة.
وفي حالة بنغلاديش، تركت الأمم المتحدة "لحكومة إجرامية مهمة التحقق من الضباط الذين ارتكبوا الجرائم" تقول ميناكشي غانغولي، نائبة مدير قسم آسيا في هيومن رايتس ووتش. وتضيف قائلة إن تصرفات وحدة العمل السريع لا تزال دون عقاب إلى حد كبير، و"ليس هناك اهتمام في بنغلاديش بمحاسبة الأشخاص على جرائم حقوق الإنسان".
الأمم المتحدة تفتقر إلى القوات
والأمم المتحدة - كما يظهر بحث DW و"نترا نيوز" وصحيفة "زود دويتشه" - تدرك جيدا المشكلة، لكنها في مأزق. ووفقا للأمم المتحدة، ينتشر حاليا 65 ألفا من ذوي الخوذ الزرقاء في دول مثل جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى ومنطقة كشمير.
فبينما كانت دول مثل فنلندا وكندا وأيرلندا تقدم أغلبية القوات قبل بضعة عقود، صارت الدول الغربية ترسل في الآونة الأخيرة عددا أقل من الجنود. وبحسب أحد المطلعين على الأمر، يتعين على الحكومات دائما أن تسأل نفسها -عند اتخاذ قرار بخصوص مهام الخوذ الزرقاء- ما إذا كانت مستعدة لدفع ثمن معين من الدماء. فإذا عاد الجنود في توابيت إلى وطنهم، حينها سيتعين على المسؤولين مواجهة لجنة تحقيق. ويقول إن دولا مثل بنغلادش لا تعاني من هذه المشكلة، حيث لا توجد محاسبة أصلا، في إشارة إلى الوضع الصعب لحقوق الإنسان هناك.
بعض جنود الخوذ الزرقاء "وحشيون للغاية"
أندرو غيلمور حاول أن يكون دبلوماسيا في إجاباته، ويقول: "بصراحة، بعض جنود الخوذ الزرق وحشيون للغاية"، هكذا عبّر الدبلوماسي السابق في الأمم المتحدة، والذي كان مؤخرا نائبا للأمين العام لشوؤن حقوق الإنسان، ويرأس الآن مؤسسة بيرغهوف في برلين. تعمل المؤسسة الوقفية من أجل السلام في جميع أنحاء العالم. في بعض الأحيان تكون هناك وحدات كاملة، وأحيانا جنود أفراد، ممن كانوا متورطين في انتهاكات لحقوق الإنسان قبل إرسالهم في مهام للأمم المتحدة.
يدافع غيلمور عن الأمم المتحدة، ويقول إنها تبذل ما في وسعها لإقناع الدول باختيار فقط الجنود الذين لم يرتكبوا جرائم ، كما أكد عدة مرات في حواره معنا.
ولكن أيدي الأمم المتحدة مكبلة في نهاية المطاف: فإذا مارست المنظمة قدرا كبيرا من الضغوط على البلدان، فإن تلك البلدان تهدد بسحب قواتها بالكامل. والنتيجة: أن بعثات السلام بأكملها ستكون في خطر. ويخلص غيلمور إلى نتيجة هي: "بعد ذلك يموت عشرات الآلاف من الناس".
ولكن متحدثا باسم الأمم المتحدة يناقض هذا الكلام، ويقول: لدى الأمم المتحدة ما يكفي من القوات، وأي تهديدات بسحب الجنود لن يكون له إلا تأثير محدود.
ومن المؤكد أن هناك ضغوطا على الأمم المتحدة. ومثال سريلانكا يوضح ذلك. ففي عام 2019 جرى تعيين قائد جديد للجيش في الدولة التي شهدت في السابق حربا أهلية. حيث قاد شافيندرا سيلفا فرقة عسكرية خلال الحرب الأهلية. وارتكبت تلك الفرقة، وفقا للأمم المتحدة، جرائم جسيمة في مجال حقوق الإنسان. وبعد موجة من الغضب الشعبي، أعلنت الأمم المتحدة أنها لن تقبل الخوذات الزرقاء من سريلانكا في المستقبل. ومع ذلك، تركت الأمم المتحدة بابا خلفيا مفتوحا: هناك حيث "تتعرض عمليات الأمم المتحدة لمخاطر تشغيلية جسيمة"، سيتم السماح بالاستثناءات، على حد تعبير المتحدث الرسمي.
ويبدو أن الأمم المتحدة قد استخدمت هذا الباب الخلفي بسخاء، حيث أرسلت سريلانكا، في عام 2019، 687 من ذوي الخوذ الزرقاء في مهام الأمم المتحدة. وفي عام 2020، بعد عام واحد من تعيين سيلفا، كان هناك 665 من أصحاب الخوذ الزرقاء.
على العموم، كما يقول أحد السياسيين الغربيين المطلعين على عمليات الأمم المتحدة، لا أحد يهتم حقا بمن ترسله بنغلاديش وغيرها في مهمات: إنهم سعداء بإيجاد ما يكفي من القوات للقيام بالمهام التي غالبا ما تكون خطرة.
بل إن بنغلاديش تخطط لتوسيع مشاركتها في مهام الأمم المتحدة. فقد كلف مقر الأمم المتحدة بنغلاديش بدور تنسيقي لشبكة من الدول المساهمة بقوات من جنوب آسيا، حسبما يوضح أحد الجنرالات البنغلاديشيين بفخر. وهذا يوضح "مدى تقديرنا"، كما يقول.
وأكد متحدث باسم الأمم المتحدة أن بنغلاديش لعبت دورا في إعادة الإعمار. وأكد المتحدث أن الأمانة العامة للأمم المتحدة لم تطلب من أي دولة عضو القيام بدور المنسق وليست في وضع يسمح لها بذلك، كما قال المتحدث، بالإضافة إلى ذلك، لم يتم اتخاذ قرار بعد بشأن من سيتولى التنسيق.
*وظلت عدة طلبات للتعليق وجهناها إلى حكومتي بنغلاديش وسريلانكا، وكذلك إلى ضباط أفراد، دون إجابة.
أعده للعربية: ف.ي