"رأيت انهيار الحضارة أمام عيني"
٨ أغسطس ٢٠١١"في ذلك اليوم كنت مشغولا بوضع اللمسات الأخيرة على زفافي قبل أن أعرف بخبر تلك الاعتداءات". هكذا بدأ طبيب الأسنان عقيل إبراهيم لازم حديثه مع دويتشه فيله. وأضاف قائلاً: "سبقت الدهشة الحزن والألم لمنظر الضحايا، لهذا المنظر المهول في التلفزيون، كنت أشعر أنني أرى انهيار الحضارة أمام عيني". وطغى على الجالسين أمام الشاشة حزن حقيقي على الضحايا، "الهجوم كان موجهاً ضد المدنيين. وهنا تغيب الأسئلة حول جنسهم ولونهم أو قوميتهم. كان حزنا من نوع آخر، لأن الهجوم نفذه أشخاص يدعون الإسلام".
تعاطف شعبي
في ليلة الهجوم وبعد أن أُذيع نبأ الاعتداءات، دخل العراق حالة من الطوارئ والتأهب العسكري، إذ انتشرت قوات الأمن وأعضاء حزب البعث الحاكم آنذاك في كل شوارع المدن، وكأن البلاد مهددة بمثل هذه الهجمات، يتذكر لازم تلك الليلة. وفي ليلة الحنة "كان الضيوف لا يتحدثون عن شيء سوى عن تلك الهجمات وما خلفته من ضحايا". ويضيف الطبيب الذي يعمل اليوم أيضاً مدرساً في كلية طب الأسنان بجامعة البصرة: "حتى في حفل زفافي أصبح هذا الحدث مدار حديث المدعوين لدرجة أنني سمعت أنباء الهجمات من المدعوين أكثر من كلمات التهاني بزواجي".
الكل كان مشغولا بتلك الهجمات من أعلى مسؤول في الدولة حتى سائق سيارة الأجرة، لكن من زاويتين مختلفتين، فمن الناحية الشعبية كان هناك تعاطف كبير مع الولايات المتحدة، عدوة صدام اللدود آنذاك، ورسمياً كان المسؤولون يشيدون بقوة نظام صدام حسين، حتى أنه تم إجبار الكثيرين على التظاهر للإشادة بقوة النظام. ودولياً كانت الهجمات نقطة تحول في السياسة الدولية وبداية الحرب على الإرهاب.
نقطة تحول
بعد سنتين أصبح بلد طبيب الأسنان نفسه مسرحاً لعدد أكبر من الضحايا، وبات منظرهم جزءاً من حياته اليومية. إذ كانت تلك الهجمات بداية لحرب طويلة شكلت نقطة تحول في السياسة الدولية، وغيرت مصير الشعب العراقي على وجه الخصوص. "في ذلك الوقت خاطب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن دول العالم بالقول إما أن تكونوا معي أو ضدي، والعراق كان في ذلك الوقت في حالة عداء شديد مع الولايات المتحدة، فقد كان قد خاض حرباً ضدها عام 1991 بعد احتلاله الكويت"، كما يقول لازم.
وساد قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 توتر نفسي كبير لدى الشعب العراقي بصورة عامة. "كان هناك تناقض وتباين في المواقف والآراء بين العراقيين، حيث أن المواطن العراقي حاله حال أي إنسان يرفض تدخل أي دولة في شؤون بلاده الداخلية أو اجتياحه، لكنه بات في الوقت نفسه يتطلع بلهفة إلى إسقاط نظام صدام حسين"، يقول لازم. ويضيف " كانت القوة العسكرية السبيل الوحيد للتخلص من هذا النظام القمعي البوليسي الذي ارتكب عدة مجازر بحق الشعب".
دوامة العنف
وبدأت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة اجتياحها للعراق في 19 آذار/ مارس عام 2003 وأدت إلى سقوط نظام صدام بعد 22 يوماً. "كنا سعداء بسقوط النظام البعثي والتخلص من الديكتاتورية"، يتذكر لازم تلك الأيام، مضيفاً: "لكني في الوقت نفسه كنت أشعر باليأس لمشاهدة دخول قوات التحالف الى العراق، فليس من المعقول أن يفرح المرء لدخول قوات غازية إلى أراضيه، لكن القمع والتهميش اللذين مارسهما صدام قلبا تلك المعايير".
وجاء إسقاط نظام صدام حسين بحرية "لم نكن نعرفها من قبل وهو حرية التعبير عن الرأي، لكن هذه الحرية لم تكن بالمستوى الذي كنا نأمله، إذ لم تكن ضمن حدود القانون". فخلال عقود حكم البعث في العراق أُعدم الكثير من الشباب لمجرد انتقاد أو الاحتجاج خلسة لسياساته. لكن ما حدث بعد 2003 أظهر أن أمنية العراقيين في أن يصبح بلدهم "يابان أو ألمانيا الشرق الأوسط" ويكون دولة حديثة في كل المجالات، كانت مبكرة.
"فوجئنا بفوضى عارمة؛ وقُسم العراق إلى كانتونات طائفية بين المحافظات لا بل وصل الأمر إلى داخل المدن أو داخل الأزقة. فقد فُتحت الحدود على مصراعيها وأُلغي الجيش بسياسات خاطئة آنذاك، فُتحت المتاحف للصوص لنهب حضارة هذا البلد لابل وصل الأمر إلى انتهاك حرمات النفس، كل هذه الفوضى أنستني الفرحة بإسقاط النظام".
"رائحة الموت تعمّ المكان"
واستمرت الفوضى شبحاً يجثم على السنوات التي تلت الحرب، فقد كان ثمن إسقاط النظام باهظاً على الشعب العراقي. ويقول طبيب الأسنان "أخذت مني الحرب والسنوات التي تلتها بعض أصدقائي وأقاربي. ففي عام 2006 فُقد ابن خالي محمد في موجة العنف الطائفي التي اجتاحت العراق. كنت حينها أعد رسالة الماجستير في جامعة بغداد، وأتذكر جيداً كيف توجهنا للبحث عنه في مراكز الشرطة والجيش والمستشفيات على أمل أن نجده".
ويضيف بالقول "عند دخولي إلى مستشفى الطب العدلي شاهدت الكثير لمعاينة الجثث، التي اكتظت بها القاعة. توقفت أمامها متسائلاً، ما ذنب أصحابها. كانت المستشفيات مكتظة بالجثث التي تفسخت أعضاؤها وكانت رائحة الموت تعمّ المكان. لم تكن الدولة العراقية في وضع يسمح بشراء ثلاجات كافية لعدد القتلى. مئات الجثث تفسخت بسبب ارتفاع درجات الحرارة، حتى بات من الصعب التعرف على ملامحها".
وفي أوج سنوات العنف الطائفي كانت شوارع بغداد شبه خالية، ولا يقطع سكونها سوى بعض السيارات القليلة التي تمر بأقصى سرعتها. وهُجرت بغداد من أهلها ومن بقي لم يكن يخرج إلى الشارع المحاذي لبيته خوفاً من الخطف من قبل الميليشيات المسلحة من الطرفين في ذلك الوقت، "بحثنا في كل مكان من مناطق بغداد، لا يمكن أن أنسى هذا إطلاقاً".
فاتورة الدم العراقي وعسكرة المجتمع
وبعد أن دفع العراقيون "فاتورة التغيير من دمائهم"، يرى طبيب الأسنان أن مواطنيه أصبحوا ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها بدأت عملا لم تنجزه حتى النهاية. "كنا ننظر إلى الولايات المتحدة على أنها القوة العظمى القادرة على فعل كل شي، وكنا نأمل أن تكون مساعدة الجانب الامريكي للعراق أكبر في ضمان الأمن وفتح آفاق التعاون العلمي الذي يحتاجه في الوقت الحاضر".
وفي ظل الأخطاء التي ارتكبها الأمريكيون في العراق "خسر الشعب العراقي أكثر مما كسب ولم يحصل على ما كان يتطلع إليه في مرحلة ما بعد صدام". ويضيف لازم "كما أن المجتمع العراقي أصبح بسبب الحروب التي توالت عليه يتجه مجدداً نحو العسكرة والعنف بدلاً من البناء والتطور وهذا ما لا يبشر بخير".
وعن تأثير ذلك على عائلته بشكل مباشر يقول طبيب الأسنان: "لدي ثلاثة أطفال ولدوا في أجواء الحرب وحالهم كبقية اطفال العراق يشاهدون مظاهر العسكرة التي عمت البلد وسمعوا وشاهدوا الانفجارات التي استهدفت المدنيين، اصبح في داخل كل طفل عراقي هاجس رعب يسمى القتل الخطف الانفجارات وهذا واضح على وجوههم".
مناف الساعدي – البصرة
مراجعة: أحمد حسو