رشا حلوة: احتفل بميلادي الرابع والثلاثين، وبالخوف والشجاعة
٢٦ سبتمبر ٢٠١٨عندما كنت صغيرة، كانت أعمار الناس بالنسبة لي، خاصّة أعمار النساء، تدلّ على مرحلة حياتية معينة، وذلك وفقًا للمعايير التي تربط أعمارهن بالحالة التي يجب أن يكن فيها ويعشنها. فهناك سيرورة ما يجب على المرء عامّة أن يمرّ بها في حياته؛ المدرسة، التعليم الأكاديمي، البحث عن عمل، الزواج، إنجاب أطفال، إلخ.. وماذا إن لم يمر المرء، وخاصة المرأة في هذه السيرورة؟ أو مرت بجزء منها وأكملت طريقها في اتجاه آخر؟
أحتفل هذه الأيام بعيد ميلادي الرابع والثلاثين، سنُّ لو سُألت كطفلة أو كفتاة في مراهقتها: "أين كنت ستكونين في منتصف الثلاثينات؟"، لكانت إجابتي تقليدية تشبه المرحلة الحياتية التي يجب على المرأة أن تكون فيها وهي منتصف الثلاثينات، لكنني، ولظروف الحياة وقرارات وخيارات عديدة، أنا اليوم في مكان آخر؛ مستقلة، غير متزوجة وأعيش في بلد يُسمى بالغريب، وذلك وفقًا لقرار شخصي، حيث حملت حقائبي يومًا ما وانتقلت بها إلى برلين لأفحص خيارات جديدة في حياتي، الشخصية والمهنية أيضًا، وبقيت هُنا.
منذ أن انتقلت إلى العاصمة الألمانية، يتكرر السؤال إلى مسمعي: "هل جئت مع العائلة إلى هُنا؟"، أو "هل جئت مع زوجك؟"، سواء كان السؤال فعلًا للفضول أم لا، إلا أنه يحمل في طياته روافد عديدة، مفادها استغراب من أن تختار امرأة الانتقال إلى مكان آخر والاستقرار به وفقًا لهواها فقط، وبلا أطر أخرى، منها الزواج والعائلة، الأطر المسؤولة عنها منذ ولادتها وحتى آخر يوم في حياتها!
أعترف، بعد مرور عام ونصف تقريبًا على انتقالي إلى برلين، أن التجربة مع جمالها، ليست سهلة، وأن السفر عامة، والحياة في بيئة مختلفة ومحيط جديد، مليئة بالتحديات اليومية، التي تزداد بالسياق الجندري وبسياقي كوني امرأة قادمة من محيط عربي، محيط أحبه وأنتمي إليه بتفاصيل عديدة، لكني أيضًا أواصل انتقاده، خاصة بما يتعلق بواقع النساء فيه، الذي في كثير من الأحيان، إن استطعنا، نحاول أن نبتعد عنه لنوفّر حياة تشبهنا، فيها مساحة من القرارات والاختيارات الذاتية التي عادة لا تلائم المحيط الذي جئنا منه، بل وفي كثير من الأحيان، ترفض بيئاتنا أشكال حياتنا المستقلة والمتمردة والحرّة كنساء.
في هذه الأيام، أتساءل كثيرًا عن معنى الحرية، وهل بالفعل الانتقال إلى مكان جديد وبيئة مختلفة ثقافيًا، كامرأة، يوفّر لي مساحة لممارسة الحرية التي أريدها واختارها؟ هل بالفعل يمكنني أن أتخذ قرارات متعلقة بشخصي وذاتي وجسدي وحياتي بلا أن أفكر مليون مرة بالمجتمع الذي جئت منه والمحيط الذي أنتمي إليه؟ حتى لو كان اليوم هذا المجتمع يبعد مسافات عديدة عن تفاصيل حياتي اليومية… حتى لو جزء من الأسباب، لأنني تركت ذاك المكان مرتبطا بحاجتي لأن أعيش حياتي كما أشاء بشكل آو بآخر، لأن أعيش سنواتي وأنا أكبر بما يختاره عقلي ويقرره قلبي وحدي، وما يلائمني أنا فقط، هل يمكن أن نعيش كما نشاء بلا أن نجرح أحباءنا وبلا أن نشعر كل حياتنا، كنساء خاصة، بأن المجتمع بإمكانه أن يكون "بُعبعًا" ينام إلى جانبنا على الأسرّة كل ليلة؟
من صديقاتي في برلين، امرأة ألمانية في منتصف الخمسينات من عمرها، مستقلّة وغير متزوجة وتعيش وحدها. نلتقي من مرة إلى أخرى، نشارك قصصنا ونتحدث عن حيواتنا، ومن أكثر التفاصيل التي نشاركها، هي المواعيد العاطفية التي نخرج إليها، كامرأتيْن، من أجيال مختلفة، تبحثان عن مساحة عاطفية جميلة، مؤقتة كانت أو أطول من ذلك. في مرة من المرات قلتُ لها بأنه من الأشياء التي تواصل حماية رغبتي بأن أعيش في برلين، أو بعيدًا عن "البيت"، هي أن يوفّر لي المكان إمكانية لأن أخرج إلى مواعيد عاطفية عندما أصل إلى الخمسين من عمري، خاصّة إن لم يكن عندي شريك حياة أو لم أكن مرتبطة عاطفيًا عندها، أو أني كنت متزوجة وللأسف رحل زوجي عن هذه الحياة، أريد أن أعيش بمكان يسمح لي أن أمارس هويّتي الإنسانية بالحبّ والعاطفة والحياة، بلا أن يفرض على روحي قيودًا وشكل حياة محدد يسيطر على نفسي ويقرر بنيابة عني، فقط لأني امرأة تكبر بالسّن ولذلك هي ممنوعة من الحبّ أو الخروج إلى مواعيد عاطفية بعد!
الكثير منا النساء، سواء كنا نعيش في البيئة التي وُلدنا فيها، أو انتقلنا إلى مكان آخر، نمارس تفاصيل من حياتنا سرًا، بمعنى أن فضاءاتنا الخاصّة تخصنا وحدنا وأحيانًا الفقاعة التي نعيش فيها تعرفها، لكن، كل من يشكّل بالنسبة لنا صورة عن المجتمع المحيط، لا يدري بما نقرره ونعيشه، وهذا طبيعي في واقع يواصل قمع المرأة وخياراتها بالحياة ويريد أن يستمر في فرض سيطرته الذكورية عليها بما يخصّ روحها وجسدها ومهنتها وحتى باختيار شريك حياتها في أحيان أكثر، أو برفض شخص اختارت أن تحبّه وتريد أن تواصل حياتها معه.
بالمقابل، الكثير منا لا يرى أن ممارسة الحرية سرًا هي أمر إيجابي، لكنه ضروري، وندافع عن حق النساء في فعل ذلك بالوقت التي تعرف النساء، حتى لو عاشت بعيدًا عن المحيط الذي جاءت منه، بأنها لن يمكنها ممارسة حريتها بشكل آخر، خاصّة علنًا. لكن، ماذا عن القرارات الحرّة التي لا يمكن إخفاءها على سبيل المثال؟ والتي تحتاج إلى مواجهة علنية مع المجتمع؟ حتى البعيد عنها جغرافيًا. في حديث مع صديقات جئن من العالم العربي، ويعشن في برلين لأسباب قسرية أو اختيارية، وهن نساء في سنّي؛ منتصف إلى أواخر الثلاثينات، يرغبن بأن يصبحن أمهات، لديهن حاجة إنسانية وجسدية وبيولوجية لتحقيق ذلك، لكنهن غير متزوجات، ومنهن من لا يرغبن بالزواج حتى، ومنهن مثليات جنسيًا، ويعشن، مثلي أيضًا، صراعا مع العمر والبيولوجيا ومحدودية ذلك في إنجاب الأطفال مع الوقت.. وبنفس الوقت، تبدو هذه الرغبات الطبيعية مستحيلة التحقيق، وذلك لأننا ننتمي إلى مجتمعات لا يمكن فيها أن تصبح المرأة أمًا بلا زواج، وفي أحيان كثيرة، بإمكان المرأة أن تموت بحسرة عدم ممارستها لشعور وتجربة الأمومة. أليست هذه قسوة لا يُحكى عنها؟
إن هذا المقال ذاتي تمامًا، يشبه المرحلة العمرية والحياتية التي أعيش فيها وأنا أحتفل في الرابع والثلاثين من عمري. نعم، هنالك من لا يزال يحتفل بازدياد سنواته، ولا يبكي عليها. أعرف اليوم، أنني ومثل عديد النساء في جيلي، اللواتي تمردن وقررن مسارات حيواتهن، وحصلن ويحصلن على دعم العائلات في كثير من الأحيان، بأننا ما زلنا نخاف، نخاف من المواجهة ومن اتخاذ قرارات، وبأننا على الرغم من قوتنا، نقدّر الضعف والخوف وعاطفتنا كنساء ونحبّ أن نبكي كلما استطعنا ذلك. اليوم، وبعد تجارب سفر ذاتية، غير متعلقة بالجغرافيا، وتلك الجغرافية، وبعد قرار الاستقرار في مكان آخر وجديد، ومع ازدياد العمر الجميل، أعرف أن الخوف المرفق بالمغامرة علّمني طرح الأسئلة، على نفسي أوّلًا، ومن الأسئلة تأتي الشجاعة لتغيير أنفسنا، التي بالضرورة ستؤثر بشكل ما على المحيط القريب أو البعيد أو البُعبع الذي في رؤوسنا، على أن أمل أن يأتي اليوم الذي لا يكون من الغريب أن تخرج امرأة في الستين من عمرها إلى موعد عاطفي جديد، مع فراشات ترقص في قلبها.
* الموضوع يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.