زيارة إلى قرية بافارية ترقد في أحضان جبال الألب الساحرة
٢٣ مايو ٢٠١٠يكاد يقتلك الفضول وأنت تشق طريقك نحو جبال الألب البافارية، ولا يتبدد هذا الفضول بمجرد الوصول إلي البيت الريفي لعائلة السيد ماير المتاخم لضفاف بحيرة "ريجزي" الواقعة في أحضان تلك الجبال، بل إنك تظل مشدودا لمعرفة الأكثر عن حياة هؤلاء القرويين وطبيعة حياتهم.
المنظر يبدو من خارج المنزل أقرب إلي الشاعرية، فقمم الجبال الشاهقة تكسوها الثلوج البيضاء بحلة بيضاء ناصعة، والبساط الأخضر يفترش المسطحات الممتدة، المكان غير بعيد عن منطقة جارمش السياحية الساحرة والمتاخمة لحدود النمسا الشمالية.
كمعظم بيوت القري الألبية يقع البيت علي مساحة كبيرة ممتدة غير مسطحة، في الفناء الخلفي مزرعة الأبقار، ثم مخازن الأعلاف من الحشائش والأعشاب البرية، التي يجمعونها في فصل الربيع والصيف ويتم تخزينها في تلك المخازن الخاصة، إذ أن لها نظام تهوية خاص يتحكمون فيه حتى لا تفسد الأعشاب التي هي أهم غذاء للأبقار في موسم سقوط الجليد.
تربية الأبقار المصدر الرئيسي للقرويين
أول ما يلفت النظر هو ثراء القرويين الواضح في تلك القري الجبلية البعيدة، فهم يمتلكون سيارات حديثة وكل الآلات الميكانيكية المتطورة، التي تساعدهم في أعمالهم اليومية في الزراعة وتربية الأبقار وتصنيع منتجات الألبان. يستفيدون من إقبال السياح لزيارة مناطق معيشتهم الخلابة، ويقومون بتأجير شقق في منازلهم الضخمة للسياح الراغبين في قضاء أجازة في الريف، والشقة عادة ما تتكون من غرفتين ومطبخ وتصل إلي مستوي 4 نجوم، كما يسمح لهم أيضا بتأجير ثمانية غرف من المنزل للأفراد دون الأسر.
ليس ثمة مشكلة في حجز غرفة أو غرفتين لبضعة أيام في منزل قروي، فالمعلومات عن السياحية الريفية متوفرة وطرق الانتقال والأسعار والحجز كلها معروفة، فقط علي الزائر أن يختار ويحدد القرية والموقع الذي يريده.
عند الوصول إلي أقرب نقطة من القرية يصطحبك أحد أفراد العائلة في سيارته الخاصة إلي المنزل.
هكذا وبعد الوصول اصطحبني السيد ماير وزوجته فيرونيكا في جولة للتعرف علي المزرعة والمنزل، يتحدث هو عن الجانب الذي يختص بتربية الأبقار وأعمال المزرعة ويترك لزوجته الجانب المتعلق بالمنزل. يفيض في الحديث عن أنواع العشب والنباتات البرية وأوراق الأشجار وكل ما يستخدم كغذاء للأبقار، ويشرح مهارته في كيفية التعرف علي تغير مذاق ألبان الأبقار عندما تختلف أو تفسد الأعشاب البرية، لهذا يتوجب المحافظة عليها بشكل كبير.
تنتج مزرعة السيد ماير الألبان العضوية النقية، وهو أمر ليس متوفر في كل القري وعن ذلك يقول:" "لكي ننتج ألبان عضوية نقية يتطلب هذا الأمر أن يكون غذاء الأبقار خالي تماماً من أي من المواد الكيميائية أو النباتات المعدلة وراثيا، لابد أن تكون الأعشاب طبيعية 100% وبعيدة عن أي من الملوثات."
إجمالي ما تنتجه المزرعة هو 87 ألف كيلو جرام من الألبان سنويا، وبعض مزارع القرية تنتج 800 كيلو في اليوم الواحد والأمر لا يبدو غريبا فبافاريا من أكثر المناطق في إنتاج الألبان على مستوى القارة الأوروبية، وعندما اسأله عن سعر الكيلو جرام من اللبن المباع للتجار يقول" انه 36 سنتاً".
الحياة تقوم كلها في القري الألبية علي تربية الأبقار والرعي، ولم أستطيع تبين زراعات معينة هنا غير بعض الخضروات والزراعات الخاصة التي تستخدمها العائلة للاستهلاك الشخصي.
بيوت القرويين مكان مفضل للسياح
السيدة" فيرونيكا" تصطحبنا في جولة للتعرف علي المنزل الكبير، الدور الأرضي مخصص للعائلة والدور الثاني والثالث مقسم لعدة غرف لتأجيرها للسياح الذين تقول عنهم: "إن الكثيرين يحبون قضاء العطلات الصيفية هنا لذلك عليهم الحجز قبل فترة طويلة، فكل الغرف مشغولة طوال فترة الصيف".
يسترعي الانتباه أن العائلة وحدها هي التي تقوم علي خدمة المزرعة والمنزل وعن ذلك تقول السيدة فيرونيكا "أقوم بتنظيف المنزل وغرف النزلاء وتجهيز طعام الفطور بل وصناعة الأغذية الحيوية كالمربي والحلويات والطعام للنزلاء، ثم مساعدة الزوج في الصباح والمساء في حلب الأبقار، أما الزوج فيقوم بكل أعمال المزرعة".
تسمح لك العائلة بكل سرور في مساعدتها أذا أردت ذلك من أجل اكتساب بعض الخبرات عن حياة القرويين كالمساعدة في حمل روث الأبقار إلى الخارج مثلا، أو حلب الأبقار أو تقطيع الأخشاب.
عادات القرويين هنا مستوحاة من البيئة الجبلية المحيطة والتي فرضت عليهم قوانينها الصارمة في كل تحركاتهم، فالطبيعة أصبحت جزء لا يتجزءا من معيشتهم اليومية وهم يقدرونها ويعتنون بها، ويعملون علي الحفاظ علي نقائها ونظافتها.
جولة بين القري الألبية
سنحت الفرصة بمرافقة السيد ماير في صباح اليوم التالي لزيارة قرية "زيهام" علي الطرف الآخر من الحدود مع النمسا، جولة غير معهودة وسط هذا التنوع الكبير من كل أنواع الارتفاعات الجبلية الشاهقة، والنباتات والأشجار الخضراء المتدرجة من الأخضر الداكن إلى الأخضر الفاتح، الأمر الذي يعطي إحساسا للنفس بالراحة والسكينة. قمم الجبال شاهقة الارتفاع هنا وتتداخل مع السحب الملتفة حولها، وتعطي في النهاية أشكالا وصورا تثير الخيال في النفس، والرغبة في عدم مغادرة شاعرية المكان، أما قطعان الأبقار فإنها ترعي في البرية علي امتداد البصر في صمت وأمان.
يقول السيد ماير إن سكان ميونيخ عادةً في نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية يهرعون إلى منطقة جارمش في الجنوب حيث تبدأ من هناك سلاسل جبال الألب، إنهم يعرفون أن اللجوء للتنزه في جبال الألب هو علاج لكثير من المتاعب النفسية والتوترات العصبية، حتى أن طبيبا نفسيا ألمانيا من مدينة نورنبرج أبتدع طريقة جديدة لعلاج مدمني المخدرات باصطحابهم في جولات في جبال الألب تمتد لمدة ثمانية أيام قيل إنها أتت بنتائج باهرة في الشفاء.
كل شيء تقريبا مصنوع من الأخشاب
الأخشاب تستخدم هناك بشكل كبير فكل شيء هنا له علاقة بالأخشاب، كل أثاث المنزل وأسطح المنازل والتدفئة، وفي صناعة لعب الأطفال والديكورات. القرويون الألبيون أيضا صنٌاع مهرة فهم يصنعون الأثاث ويشيدون المنازل والحظائر بأنفسهم وهم نجارون ممتازون أغلبهم يلحق بمنزله ورشة نجارة كاملة تشتمل تقريبا علي كل الأجهزة.
وعندما اسأل السيد ماير عن الاهتمام بالأخشاب يقول" إن القرويين يمتلكون هكتارات من الغابات المزروعة بالأشجار ولهم حق التصرف في أخشابها، لذلك تجد عندنا وفرة كبيرة من الأخشاب نستخدمها هنا في كل شيء".
يكاد لا يخلو أي منزل في القري الالبية من مكتبة تحتوي علي بعض الكتب أو المجلدات إنهم يقرؤون في أوقات الفراغ بكل تأكيد، وهم علي دراية واسعة بكل ما يحيط بهم من أحداث، وهم متخصصون إلى حد كبير في عملهم ويملكون ثقافة واسعة عنه.
الأعشاب تستخدم في الطعام والشراب
نقوم بزيارة لمنزل السيدة "زينزي" وهي إحدى القرويات التي تتمتع بشهرة كبيرة في معرفة أنواع الأعشاب والنبات البرية، حدثتني بالتفصيل عن الأعشاب وأهميتها لصحة الإنسان كما أنها تستطيع التمييز بين كل الأعشاب الجبلية ومعرفة فائدة كل منها. يزور السياح بيتها لشراء بعض الأعشاب النباتية وسؤالها عن البعض الآخر المفيد لحالات بعينها.
اجتمعنا حول المائدة لتناول وجبة صحية من البطاطس المسلوقة المحشوة بمختلف أنواع الأعشاب البرية الخضراء التي صنعتها السيدة زينزي بنفسها، أما المشروب المصاحب فكان منقوع الزهور مختلفة الألوان التي تختارها بعناية من الجبال وتعرف أهميتها الصحية، وهذا المشروب ليس له مثيل في أي مكان آخر، إنهم يستفيدون من الطبيعة بشكل كبير، ويتفاعلون معها بشكل أكبر، لهذا تلقي السياحة نجاحا متزايدا إلى القري الألبية، إنها تجربة فريدة مفيدة للصحة النفسية والجسدية.
صلاح سليمان ـ ميونيخ
مراجعة: عبده جميل المخلافي