صعوبة مكافحة الفساد في مصر تكمن في خطورتها!
٩ ديسمبر ٢٠١٦دفع جمال 40 ألف جنيه (2.220 دولار) كرشوة لأحد المسئولين لتعيينه كعامل في إحدى الشركات الحكومية رغم أن مرتبه الشهري لا يزيد عن 1500 جنيها (83.33 دولارا).
لكن المفاجأة أن جمال تم تعيينه بموجب حصوله أيضا على شهادة محو الأمية، لكنه لا يزال لا يعرف القراءة أو الكتابة ودفع رشوة أيضا من أجل الحصول على هذه الشهادة لأن الوظيفة تتطلبها.
ويقول جمال (34 عاما) لـDW عربية، رفض ذكر اسمه كاملا، إنه حاول التعلم لكنه لم يفلح، مشيرا إلى أنه يعمل ميكانيكيا، لكنه كان يريد وظيفة حكومية لتأمين مستقبله ومستقبل أولاده. وجمال هو واحد من آلاف يسعون لنيل وظيفة حكومية بأي ثمن.
ومؤخرا تباهى بعض الشباب، على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بقبولهم في كلية الشرطة من خلال وساطة أقاربهم من أعضاء البرلمان أو من ذوي المناصب في الدولة. وذكرت تقارير صحفية عن قبول 40 طالبا في الدفعة الجديدة في كلية الشرطة من أبناء النواب وأقاربهم.
ومن حق خريجي كلية الشرطة أن ينضمون بعد ذلك إلى السلك القضائي، فضلا عن تعيين الكثير من أبناء القضاة واستبعاد بعض المتفوقين في كليات الحقوق، في حين تتكرر مظاهرات بعض الحاصلين على درجتي الماجستير والدكتوراه في مصر للمطالبة بتوظيفهم.
وفي عام 2015؛ انخفضت درجة مصر إلى 36 من 37 في العام السابق من أصل 100، في مؤشر مدركات الفساد الذي تعلنه منظمة الشفافية الدولية سنويا، محتلة المركز 88 من أصل 168 دولة.
ويرى عضو مجلس النواب هيثم الحريري أن الدولة تتعايش مع الفساد.
صعوبة كشف الفساد في مصر
اكتشف المحامي احمد جاد أثناء عمله في شركة خاصة تورِّد قمح محلي للحكومة، إهدار 2 مليار جنيه من خلال توريد وهمي لكميات من القمح للحكومة على الورق فقط، فتقدم بالمستندات للنائب العام والأموال العامة ووزير التموين في 9 من أيلول/ سبتمبر 2015، وتقدم بها لإحدى الصحف القومية، إلا أنه في ليلة نشرها في الجريدة أطلق عليه النار من مجهولين كانوا يستقلون دراجة نارية أثناء خروجه من احد المقاهي على أطراف القاهرة ليستقبل مكالمة هاتفية، وأصيب بـ3 رصاصات اخترقت جسده لكنه نجا من الموت.
وكانت المستندات التي تقدم بها جاد هي بداية حملة ضخمة ضد الفساد في القمح، ومصر هي أكبر مستورد للقمح في العالم، أدت إلى كشف فساد بمليارات الجنيهات واستقال وزير التموين بسببها، ولا تزال التحقيقات جارية حتى ألان.
يقول جاد لـDW إنه حتى الآن يفاجئ بمحاضر شرطة ضده من خلال إجبار الشركة التي كشف فسادها لعاملين فيها تعرضوا لحوادث سير متفرقة باتهامهم له بالاعتداء عليهم، "إحدى هذه المحاضر تحولت للمحكمة وصدر ضدي حكما غيابيا بالحبس لـ6 أشهر وعلمت بالصدفة حينها وقمت بمعارضة الحكم وحصلت على البراءة".
وشارك جاد في لجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي قامت بجولات في شركات وصوامع القمح كمتطوع، وهي الحملة التي أدت إلى كشف عدد من الفاسدين وإرغام وزير التموين على تقديم استقالته، ولا تزال الكثير من القضايا يحقق فيها.
ويضيف جاد أن عمله تأثر بشدة بعد كشفه للفساد، وأصبح مهددا ولم يجد أي تقدير معنوي من الدولة، ويقول "أي شخص لديه مستندات فساد قد يعتبرني عبرة ولن يتحدث حتى لا يدخل في مشاكل".
وتقول الدكتورة غادة موسى أستاذ مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عضو اللجنة الفرعية للجنة الوطنية لمكافحة الفساد،لـDW إن مصر تحتاج بالفعل إلى قانون يحمي المبلغين عن الفساد وكذلك الشهود والخبراء وضحية الفساد لأنهم معرضون للخطر بسبب ما يمتلكونه من أدلة ضد الفاسدين.
التحقيق سرا خوفا من الملاحقة الأمنية
أصبح الخوف سمة سائدة، ويخشى البعض الكشف عن الفساد خوفا من الملاحقات الأمنية، وفي هذا السياق دشن نشطاء صفحة "الموقف المصري" كشفت عن إهدار مال الدولة في عدد من القطاعات، واكتسبت مصداقية وشهرة بحيث تخطى عدد متابعيها نصف مليون، بالرغم من عدم معرفة القائمين على الصفحة.
وراسلت DW الصفحة لمعرفة أسباب عدم الإعلان عن القائمين على الصفحة، فأجابوا بأن "ذلك خوفا من الملاحقات الأمنية.. نحن في بلد يسجن أي شخص بكل سهولة بتهم "نشر اخبار كاذبة" أو "تكدير السلم العام". وهناك شباب حبسوا بسبب فيديوهات ساخرة".
وكانت محكمة مصرية قضت بحبس المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، سنة واحدة وتغريمه بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، عن حجم الفساد بمصر، ولكن جنينة طعن على الحكم، وفي 25 أكتوبر الماضي فتحت محكمة القضاء الإداري باب المرافعة في القضية مرة أخرى.
وفُصل جنينة من منصبه كرئيس لأكبر الأجهزة الرقابية المستقلة في مصر في مارس/ آذار الماضي بعد تصريحات تضمنت بلوغ حجم الفساد المالي في البلاد 67.6 مليار دولار في أربع سنوات فقط ، بناء على دراسة أجراها الجهاز.
واتهم جنينة عدداً من "الجهات السيادية والأمنية" بالوقوف وراء محاولات تشويه سمعته، ومنعته من لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي لتوضيح وجهة نظره.
ويقول عضو مجلس النواب هيثم الحريري لـDW : "كنا نظن أن القانون الذي أصدره السيسي الخاص بحالات إعفاء رؤساء الأجهزة الرقابية القصد به المستشار هشام جنينه، وفي الحقيقة فإن القانون لم يطبق على أحد سوى جنينة"، مشيرا إلى أن البرلمان كان يجب أن يحقق في دراسة جنينة وما أفضت إليه لجنة تقصي الحقائق لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، وهو أبلغ مثال على أن الدولة لا تزال تتعايش مع الفساد.
لكن عضو اللجنة الفرعية للجنة الوطنية لمكافحة الفساد غادة موسى تقول إن دراسة جنينه لم تكن منهجية وعليها إشكاليات كثيرة. وكانت وزارة التخطيط قد أعدت دراسة بإشراف الدكتورة غادة موسى عن الفساد الإداري في مصر شملت نظم المساءلة والفساد الإداري ووضع السياسات وإدارة الاقتصاد، لكن الدراسة لم تنشر.
ومما يصعب الكشف عن الفساد والمساءلة، غياب قانون الحق في الحصول على المعلومات رغم أن الحديث عن أهميته بدأ قبل ثورة 25 يناير، لكن تراجع الحديث عنه مؤخرا ولا يبدو أنه على الأجندة التشريعية للبرلمان في المدى المنظور.
البرلمان أو الحكومة.. من المسؤول؟
يتفق عضو مجلس النواب هيثم الحريري مع الدكتورة غادة موسى في تقصير البرلمان في دوره الرقابي أو التشريعي في محاربة الفساد.
ويقول الحريري: "المجلس لا يقوم بدوره في الرقابة أو حتى التشريع فيما يخص مكافحة الفساد.. فمثلا كان يجب تعديل القانون الذي أصدره الرئيس السابق عدلي منصور الخاص بمنع الطعون على العقود التي تبرمها الدولة مع المستثمرين، كما تتصالح الدولة مع رموز نظام مبارك الذين نهبوا الأموال مثل حسين سالم ورشيد محمد رشيد.. أليست هذه التصالحات تقنين للفساد ودعوة للفاسدين أن يستمروا في فسادهم ثم يتصالحون بعد ذلك؟" يتساءل الحريري.
في المقابل تتهم الدكتور غادة موسى البرلمان بأنه هو الذي يجب عليه تعديل هذه القوانين وهذا دوره وعليه أن يسأل الحكومة فيما تفعله.. أعتقد أن محاربة الفساد ليس من أولويات البرلمان"، حسب قول الدكتورة غادة موسى.
لكن الحريري يرى أن الحكومة في المقابل أيضا لا تتعاون مع النواب في الحصول على المعلومات للكشف عن الفساد، وفي المقابل تنفي موسى عدم تعاون الحكومة مع البرلمان قائلة: "أنا أرد بنفسي على كل طلبات النواب، لكن عدم تساؤلهم عن بعض القضايا فهذه مشكلتهم.. عليهم أن يعدلوا من التشريعات الخاصة بمحاربة الفساد وعليهم أن يراقبوا الحكومة بشكل أكثر فاعلية"، مستشهدة بقانون حظر تعارض المصالح الذي صدر في 2013 وحتى الآن لم تصدر لائحته التنفيذية "رغم أنه قانون مهم في مجال مكافحة الفساد، لكن لماذا لم يُساءل البرلمان الحكومة حول أسباب عدم صدور اللائحة التنفيذية حتى الآن".
مدى فاعلية الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد؟
تعترف الدكتورة غادة موسى بأن هناك فساد كبير في مصر وتقول: "طبعا المشكلات كبيرة جدا والتحديات كبيرة جدا والفساد كبير، ونحن جادون في محاربته والرئيس لم يغفل الحديث عن الفساد في أي من خطاباته.. بدأنا بمحاربة الفساد في الجهاز الإداري للدولة والذي يبلغ عدد العاملين فيه 6.5 مليون شخص، من خلال رفع وعي قيادات الوزارات المختلفة بتدريبهم وتوعيتهم بأهداف الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وموقع مصر من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهناك متابعة دورية ربع سنوية على كل وزارة فيما حققته من أهداف الإستراتيجية وتعزيز النزاهة والشفافية"، حسب تعبيرها.
وصادقت مصر على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في عام 2005، وأطلقت العديد من اللجان للنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد منذ 2008، وأطلقت في عام 2014 الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد حتى عام 2018.
في المقابل يرى أسامة دياب الباحث المتخصص في ملف مكافحة الفساد أن الإستراتيجية تحتوي على العديد من النقاط الإيجابية، لكنها لا تتعدى المستوى الخطابي والإنشائي، وتصلح ربما كمبادئ توجيهية للعاملين في الجهاز الإداري والتنفيذي، أو كخطة حكومية طموحة متوسطة الأجل، أو لمغازلة الرأي العام وتهدئته وبث الأمل في نفوس المواطنين في فترات صعبة على المستوى الاقتصادي.
ويوضح أن الإستراتيجية تمثل توسع في تأميم ملفات الفساد وجعل العمل عليها حكرا على أجهزة الدولة التنفيذية، ويتنافى ذلك مع مبادئ الشفافية التي لا تصح أي جهود لمكافحة الفساد بدونها، فاللجان التي من المفترض أن تكون مستقلة مثل اللجنة التنسيقية الوطنية لمكافحة الفساد ولجنة استرداد الأموال المنهوبة يترأسها شخصيات حكومية بصفتهم وليس حتى بشخصهم، وهم رئيس الوزراء ووزير العدل بالترتيب، ويتشكل أغلب، إن لم يكن كل أعضاءهم، من شخصيات حكومية تنفيذية.
غير أن هذا يضرب مبدأ الشفافية شديد الارتباط بمكافحة الفساد في جوهره، فإنه أيضا غالبا ما يعبر عن عدم ثقة الدولة في المجتمع المدني وفي أحقية المواطنين في المعرفة ومراقبة أموالهم كدافعي ضرائب يحق لهم الإطلاع على وسائل إنفاق أموالهم.
مصطفى هاشم ـ القاهرة