علاء الأسواني: كل هذا الاستعباط.. هل ينقذنا؟!
٢٦ نوفمبر ٢٠١٩هذه الواقعة حدثت الأسبوع الماضي.. أثناء مبارة كرة القدم بين المنتخب المصري الأوليمبي وجنوب افريقيا. لقد هتفت الجماهير في المدرجات "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين"، عندئذ تحمس شاب اسمه عز منير (20 عاما) وقام برفع علم فلسطين وسرعان ما أحاط به رجال الأمن وانتزعوا منه العلم ثم قبضوا عليه واقتادوه معهم ولا أحد يعرف مكانه حتى اليوم.. ماذا فعل المشجعون وهم يرون اعتقال زميلهم لمجرد أنه رفع علم فلسطين؟ لقد هتفوا بقوة.
"سيبه.. سيبه" طالبين من الضابط أن يترك الشاب عز لكنه قبض عليه فماذا فعلوا؟ للأسف لم يحركوا ساكنا بل نسوا المعتقل واندمجوا في مشاهدة المباراة وعندما فاز الفريق المصري راحوا يهللون ويرقصون احتفالا بالفوز وعادوا إلى بيوتهم وهم في منتهى السعادة. إن الشاب عز منير لم يرتكب أي جريمة. لقد عبر عن رأيه بطريقة سلمية متحضرة فلماذا تم اعتقاله؟ الإجابة ان العقيدة الأمنية التي تحكم مصر منذ عام 1952 تفترض أن المصريين جبناء، وبالتالي فإن السيطرة عليهم تتحقق بالتنكيل ببعضهم ليكونوا عبرة للآخرين.
أضف إلى ذلك أن اللواءات الذين يحكمون مصر الآن كانوا في السلطة أثناء ثورة يناير وهم لا ينسون أبدا الدور الذي قامت به مجموعات الألتراس في حماية الثورة وبالتالي فإنهم يقمعون المشجعين حتى لا يفكروا في المشاركة في العمل العام مجددا. ما فعله رجال الأمن ليس غريبا عليهم لكن الغريب هو تصرف المشجعين الذين أعلنوا بمنتهى الحماس استعدادهم لفداء فلسطين بالروح والدم لكنهم لم يفعلوا شيئا للدفاع عن عز منير وهو يعتقل وسطهم وأمام أعينهم.. لو أن عشرات الجالسين في المدرج قاموا بحماية عز لما استطاع الأمن اعتقاله. كان المشجعون يعرفون أن عز منير مظلوم وبريء لكنهم تجاهلوا أمر اعتقاله وتصرفوا كأن شيئا لم يحدث. لقد قرر المشجعون الاستعباط ايثارا للسلامة وتجنبا للمشاكل حتى يستمتعوا بالمباراة ويعودوا سالمين إلى بيوتهم.
"الاستعباط" في اللغة معناه التظاهر بالعباطة والغباء. إن "المستعبط" شخص يدرك تماما ما يحدث حوله لكنه غير مستعد للدفاع عن الحق، ولذلك يتظاهر بأنه لايفهم ويتهرب في سياق بعيد وهمي.. إنه يترك المعركة الحقيقية لأنها مكلفة ويخوض معارك جانبية تافهة لكنها آمنة ومجانية. لو أنك جلست مع المصريين في الاحياء الشعبية لاعتقدت أن الثورة ستقوم غدا. إنهم يشكون بمرارة من الغلاء والظلم والقمع لكنهم لا يفعلون أبدا أكثر من الشكوى. مع عجزهم عن مواجهة الديكتاتور فإن بعضهم يستعبطون ويبحثون عن معارك صغيرة يفرغون فيها غضبهم بشكل آمن، هؤلاء يقومون الدنيا ويقعدونها مثلا إذا قام الأقباط ببناء كنيسة في شارعهم أو يجرون تحريات دقيقة حتى يضبطوا فتاة تزور شابا أعزب في شقته، لينهالوا عليهما ضربا وتجريسا. تأمل الشيوخ الذين يظهرون كل ليلة على قنوات التليفزيون ليشغلوا الرأي العام بمعارك حول الحجاب والنقاب لكنهم لا يفتحون أفواههم بكلمة لإدانة اعتقال الأبرياء وتعذيبهم في عهد السيسي.
هؤلاء الشيوخ يستعبطون ليحافظوا على امتيازاتهم وأموالهم وهم يعرفون أن إدانة الظلم ستكلفهم ثمنا باهظا لا يريدون دفعه. انظر إلى من يسمون بالمفكرين التنويريين. إنهم يتصدون بحماس لأفكار المتطرفين لكنهم لا ينطقون بكلمة واحدة لإدانة الديكتاتورية والقمع. إنهم يستعبطون لأن النضال ضد التطرف الديني سهل ولذيذ، أما المطالبة بالديمقراطية فستؤدي بهم جميعا إلى السجن.
تأمل أعضاء ما يسمى بالبرلمان المصري، إنهم يشتبكون بحماس في معارك جانبية تافهة بينما هم وافقوا على التنازل عن جزيرتين مصريتين للسعودية. إنهم يستعبطون لانهم يعلمون أن المخابرات هي التى أتت بهم إلى البرلمان فهم ليسوا نوابا عن الشعب، وإنما موظفون مطيعون ينفذون تعليمات الأمن. المسئولون الذين يتهمون وسائل الإعلام العالمية بتشويه صورة مصر لأنها تنشر انتهاكات حقوق الإنسان. هؤلاء يستعبطون لأن من يعارض السيسي لا يعارض مصر كما أنه لا يمكن إصلاح الصورة قبل إصلاح الأصل، لكنهم يعلمون أنهم لو طالبوا النظام باحترام حقوق الإنسان فسوف يطردون من مناصبهم.
إن الشاب عز منير الذي عبر عن رأيه برفع علم فلسطين فتم اعتقاله ولم يدافع عنه أحد هو مجرد نموذج لآلاف الشباب الذين ثاروا في يناير 2011 حتى يحصل المصريون على كرامتهم وحريتهم. هذا الشباب العظيم النبيل دفع ثمن الحرية بالكامل. كثيرون منهم استشهدوا برصاص القناصة وكثيرون فقدوا أعينهم بطلقات الخرطوش وكثيرون مسجونون ظلما منذ شهور أو سنوات. فماذا فعل المصريون للتضامن مع الثوار المدافعين عن حريتهم؟
بعض المصريين مارسوا الاستعباط وراحوا يهاجمون شباب الثورة ويتهمونهم بالعمالة والخيانة لأنهم ببساطة لا يستطيعون أن يثوروا مثلهم أو لأنهم اصبحوا جزءا من الفساد الذي تريد الثورة القضاء عليه. إن ما فعله المشجعون في الاستاد يفعله للأسف مصريون كثيرون. إنهم يستعبطون لأنهم يفضلون الأمان مع الظلم على خوض المعركة من أجل العدل والحرية.
إن الاستعباط لا يلغي معركة الحقيقة لكنه فقط يؤجلها إلى حين. لقد حانت لحظة الحقيقة في مصر ولا مفر أمامنا جميعا من مواجهة الديكتاتور. لقد صارت حياة ملايين المصريين مستحيلة فلم يعد لديهم ما يخسرونه. إن ثمن السكوت على الظلم أكبر بكثير من ثمن مقاومته، كما أن القمع الذي أصاب الآخرين اليوم سيصينا حتما غدا. آن الأوان لكي نطالب بحقوقنا المشروعة كمواطنين ونقيم دولة القانون.عندئذ سيبدأ المستقبل في مصر.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.