عماد الدين حسين: رسالة غاضبة من قارئ محبط
١٧ مايو ٢٠١٨يوم الأحد الماضى بعث لى أحد القراء رسالة يلومنى فيها على عدم اتخاذ موقف واضح من قرار الحكومة المصرية برفع أسعار تذاكر مترو الأنفاق بنسب مختلفة وصلت إلى 235 في المائة.
صاحب الرسالة وجه لي أسئلة استنكارية من قبيل: "لماذا لم تربط بين قرار رفع أسعار المترو، وبين رفع رواتب الوزراء ونوابهم ورئيس البرلمان، ولماذا تغض الطرف عن بذخ الحكومة، فى الإنفاق على بعض المشروعات غير الضرورية؟".. صاحب الرسالة الغاضبة سألنى أيضا: لماذا أتجاهل ضعف مرتبات الصحفيين المصريين.
وكيف يمكن لرب أسرة أن يواصل الحياة وهو يتقاضى 1200 جنيه "الدولار يساوى 17,5 جنيها"، ولديه ثلاثة أبناء فى الجامعة، فى حين أن بعض رجال الأعمال يتهربون من الضرائب!. ويختم القارئ رسالته بقوله: "كنت أتمنى أن تستخدم خطابا أكثر غلظة، وتطالب كبار المسؤولين بالتدخل والتراجع عن هذا القرار المجحف بحق مواطن فاض به الكيل، وذاق الأمرين"!!!.
بداية احترم حق هذا القارئ الكريم وغيره الذي يعبر عن رأيه، ويلومني على شيء لكنه للأسف لوم غير دقيق.
لا أنوى الحديث عن قضية شخصية، سواء كانت عن هذا المواطن الغاضب أو عن العبدلله كاتب هذه السطور. لكن الذي جعلنى أكتب فى هذا الموضوع اليوم، أنه الموضوع الذى يهم غالبية الأسر المصرية، تقريبا وشغل الجميع.
القارئ الكريم وغيره كثيرون يريد من الكاتب أن يعبر عن وجهة نظره فقط، وينتقد الحكومة ليلا نهارا، على سياساتها وتوجهاتها. والحكومة تريد من الكتاب والصحف، أن تتبنى وجهة نظرها فقط وتبرر كل القرارات والإجراءات والسياسات، وأن تلوم وتهاجم وتنتقد المواطنين الكسالى الذين يريدون رواتب وأرباح من دون عمل أو الحد الأدنى من العمل!!!، حسبما تلمح بعض المصادر الحكومية.
فى هذه الحال يصبح السؤال الجوهرى.. ما هو العمل، أو ماذا على الكاتب الصحفي أن يفعل ؟!
أدرب نفسى منذ فترة أن أكون موضوعيا قدر الإمكان. جربت لفترات طويلة أن أكون ناشطا حزبيا وأحيانا غوغائيا وحنجوريا، ثم اكتشفت أنه من الخطأ الجسيم الخلط بين المهنة الصحفية والخطابة السياسية، في لحظة واحدة.
من حق كل شخص أن يدافع عما يؤمن به من أفكار وأن يروج لها بقدر استطاعته، طالما كانت فى إطار القانون، ومن حقه أن يكتب عن ذلك إذا كان ناشطا حزبيا. لكن إذا أراد أن يكون كاتبا موضوعيا، فحق عليه أن يضع قراءه أو مشاهديه فى كامل الصورة وبكل تفاصيلها حتى يمكنهم أن يكوِّنوا رأيا سليما فى الأمر المعروض عليهم.
هذه المشكلة أحد الأسباب الرئيسية للاستقطاب الحاد الموجود فى مصر الآن. غالبية الأطراف تتحاور بمنطق "المباريات الصفرية"، أي أن وجهة نظري سليمة بنسبة مائة فى المائة، ووجهة نظرك خاطئة مائة في المائة.
رغم أنه من المنطقي والطبيعي عدم وجود الحقائق المطلقة الا في لخطات نادرك، بمعنى أن تكون وجهة نظرك صحيحة بنسبة 50 أو 70 أو 90 في المائة، والعكس صحيح.
طوال الأسبوع الماضى كتبت وتحدثت فى برامج تليفزيونية، وقلت أن هناك معضلة حقيقية ينبغى حلها. هذه المعضلة تتمثل فى أن الحكومات السابقة خصوصا في عهد حسنى مبارك، أجلت عملية الإصلاح الاقتصادي لعقود، وحاولت شراء صمت وصبر غالبية المواطنين على أمل أن يسمحوا ببقاء النظام غير الديمقراطي لأطول فترة ممكنة. وحينما سقط هذا النظام فى 25 يناير 2011 ،استيقظ المصريون على كابوس الكارثة الاقتصادية التي يعيشونها من عجز حاد فى الميزانية إلى اقتصاد خدمي أكثر من إنتاجي، إلى بطالة وانخفاض حاد فى مستوى التعليم وتراجع حاد فى المجالات الصحية.
ثم تفاقم الأمر بصورة أكثر مع الانفلات الشامل الذى ضرب المجتمع المصرى فى السنوات التى تلت ثورة يناير.
أحد تداعيات الصورة السابقة أن الدولة كانت تدعم تقريبا كل شىء من الوقود والكهرباء مرورا بتذاكر المترو والسكة الحديد والنقل العام نهاية بالسلع التموينية الأساسية.
تقول الحكومة الحالية إنه لم يكن ممكنا الاستمرار في هذا الأمر، لأن العجز فى الموازنة بلغ مستويات قياسية وكذلك انخفاض نسبة النمو، وبالتالى لجأت إلى عملية الإصلاح الاقتصادي، التي كانت أبرز تجلياتها تعويم الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية فى 3 نوفمبر 2016، وبدء الرفع التدريجي للدعم عن الوقود والكهرباء والخدمات الأساسية.
رأيي الواضح أن عملية الإصلاح كانت حتمية، وإلا دخلت البلاد فى نفق مظلم، الخلاف الجوهري هو كيف تتم عملية الإصلاح بأقل قدر ممكن من الأضرار خصوصا للفقراء ومحدودي الدخل والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة.
الحكومة تحاول أن تعالج هذا الأمر عبر شبكة الحماية الاجتماعية خصوصا برنامجي "تكافل وكرامة" و الضمان الاجتماعي وزيادة الدعم المخصص للسلع الأساسية على البطاقات التموينية.
لكن من الواضح وطبقا لمشاهداتي المباشرة وسماع أقوال العديد من المواطنين من طبقات مختلفة، فإن الأزمة عميقة جدا.
من حق الحكومة أن تعالج العجز الموجود فى ميزانيات المترو والسكة الحديد وسائر القطاعات الخدمية والاقتصادية، ولكن من ناحية أخرى فهناك مواطنون ليس فى استطاعتهم تحمل تناول هذا الدواء المر.. فكيف يكون الحل لهذه الإشكالية؟!
لو دافعت عن وجهة نظر الحكومة، فقد يتهمنى الفقراء بأننى "أطبل لها وأنافقها"، ولو دافعت عن وجهة نظر المواظنين الفقراء، فقد تتهمنى الحكومة بأننى "عاطفى وحنجوري وبتاع شعارات، ولا أنظر للمصلحة العامة"!!!!.
ما أنا مقتنع به في مثل هذه القضية وغيرها، أن الإصلاح مطلوب وحتمي ولا يمكن تأجيله، شرط أن يتم على أسس صحيحة، وشرط أن نتأكد كمواطنين من أن يتم بأكبر قدر من الشفافية والنزاهة، وأن الأموال العائدة والمتحققة من الزيادة سوف تذهب فعلا لتطوير المترو وسد العجز فى موازنته وليس لزيادة رواتب كبار الموظفين والمستشارين، وأن تتم عملية جمع وتحصيل الضرائب من القادرين بكفاءة، ومن دون تهرب. وأن تكون إدارة المترو وغيره من المرافق تتم بأكبر قدر من الكفاءة، حتى لا يقوم "المواطنون الغلابة" بتمويل تعيين موظفين غير أكفاء.
قلت كثيرا أن الحكومة أخطأت فى إخراج قانون زيادة رواتب الوزراء وكبار المسؤولين فى الوقت الذي تتخذ فيه هذه الإجراءات القاسية. وكتبت مرارا وكرارا أن هناك مشروعات كان ينبغى تأجيلها وتوجيه الأموال لتشغيل المصانع وتوفير فرص عمل.
تقديرى الدائم أنه لا يوجد أبيض وأسود فى السياسة إلا فى لحظات قليلة جدا. ومعظم القضايا يغلب عليها اللون الرمادي. وبالتالي فإن تشخيص القضايا بدقة شرط جوهري لحلها، أما أسهل شيء فهو أن أنافق الحكومة أو أنافق المواطنين.
والخلاصة أنه حينما تكون كاتبا مستقلا، أو تحاول ذلك، فهو أمر صعب للغاية، لأنك لن ترضى أي طرف. المهم أن ترضى ضميرك أولا.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.