حين تكون الأخبار الكاذبة وقوداً يزيد لهيب الحرب!
٤ مارس ٢٠٢٢منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا حفلت وسائل الإعلام المختلفة بالعشرات من الأخبار غير الموثوقة، منها الكاذب بالكلية ومنها ما يعرض نصف الحقيقة فقط المراد نشره، ومنها الملون الذي يتم فيه التلاعب فيه بالألفاظ والمصطلحات. روسيا التي كثيراً ما أغلق فيسبوك وتويتر حسابات تابعة لها بسبب نشر منصات وحسابات تابعة لها أخباراً كاذبة، أقر برلمانها (الدوما) فرض عقوبات صارمة على نشر معلومات كاذبة عن القوات المسلحة الروسية منها فرض غرامات باهظة والسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً.
لا راوية أخرى مسموح بها!
ومنذ الأسبوع الماضي بات يُحظر على وسائل الإعلام في روسيا استخدام مصطلحات مثل "هجوم" أو "غزو" أو "إعلان الحرب" في تغطية الحرب ضد أوكرانيا. وتصف موسكو الحرب بأنها "عملية خاصة" عسكرية.
القرار الجديد سبقه تحركات روسية شددت القيود على ماتبقى من وسائل إعلامية مستقلة في روسيا، إذ أُغلقت بالفعل عدة محطات ناقدة خلال الأيام الماضية. وأُعلن الأسبوع الماضي أن أي وسائط إعلامية روسية لن تقوم بحذف المحتويات التي تنتهك اللوائح، سيُجرى حظرها. وينطبق هذا أيضاً على نشر "معلومات غير صحيحة عن قصف مدن أوكرانية ومقتل مدنيين في أوكرانيا خلال عمليات للجيش الروسي". وتم بالفعل حظر العديد من الوسائط الإعلامية.
ومُنعت وسائل الإعلام الروسية من استخدام أي معلومات غير تلك التي تقدمها السلطات والتي تصور غزو أوكرانيا على أنه مجرد "عملية خاصة".
فيض من الأخبار الكاذبة
من ضمن الأخبار الكاذبة التي انتشرت بكثافة خبر "شبح كييف" وهي قصة اعتُبر أنها تمنح الشعب الأوكراني الشجاعة والأمل وتتحدث القصة عن مقاتل طيار أوكراني استثنائي للغاية يُقال إنه أسقط بمفرده ست طائرات روسية منذ بدء الغزو، وانتشرت صور وفيديوهات عن الأمر، حتى أن بعض التغريدات عن القصة تمت مشاركتها عدة آلاف من المرات:
لكن مؤخراً تم التحقق من أن أحد الفيديوهات التي تتحدث عن القصة تم التلاعب فيه ببراعة وكان مصدره الرئيسي جانب من لعبة فيديو تسمى Digital Combat Simulator World. وأكد متحدث باسم شركة Digital Combat Simulator World لوكالة رويترز للأنباء أن المادة الفيلمية من اللعبة بالفعل.
على الجانب الآخر، انتشر فيديو لجنود من الرجال والنساء قُيل إنهم من روسيا يحتفلون ويرقصون قبل التوجه إلى أوكرانيا.
لكن فريق تقصي الحقائق في دويتشه فيله أكد من خلال عملية (التحقق العكسي) أن الفيديو لم يكن لجنود روس وإنما لجنود من أوزبكستان وأن تاريخه يرجع إلى عام 2018.
اقرأ أيضاً: حتى لا تقع في فخ الصور المفبركة.. إليك ما ينصح به الخبراء!
أيضاً انتشر فيديو قيل إنه لمضادات دفاعية روسية تتصدى لمقاتلات اوكرانية، والرواية نفسها أوردتها مصادر أوكرانية بشكل معكوس، لكن اتضح لاحقاً أن الفيديو مأخوذ من لعبة فيديو تسمى Arma 3 وهو الخطأ الذي وقعت فيه وسائل إعلامية إسبانية:
ومن هذه الأخبار ما نشرته وسائل إعلام روسية بأن أوكرانيا هي من بدأ الحرب وأن روسيا تقوم فقط بإنهائها. هذه التصريحات جاءت على لسان ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، في منشور لها على فيسبوك صوّرت خلاله الغزو الروسي لأوكرانيا كجزء من صراع أوسع كان مستعراً لسنوات. كما زعمت زاخاروفا أيضاً أن أوكرانيا خططت لـ "إبادة ممنهجة لسكان دونباس".
المنحى نفسه اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي برر الهجوم الروسي في بدايته على أنه "دفاع عن النفس" بما يتماشى مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
لكن فريق التحقق من صحة المعلومات في دويتشه فيله DW أكد أن تصريحات زاخاروفا كاذبة. إذ بدأ النزاع المسلح الحالي عندما دخلت القوات الروسية أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط، بعد وقت قصير من إعلان بوتين عن "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا. كما أكد فريق التحقق من المعلومات في دويتشه فيله أنه حتى اللحظة لا يوجد دليل على الإطلاق على وجود "إبادة ممنهجة" للسكان في دونباس.
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أورد مغردون أمثلة أخرى:
كشف الأخبار الكاذبة
بالنسبة إلى المؤسسات الإعلامية ربما يكون الأمر أكثر كلفة وتعقيداً ويحتاج إلى صحفيين مدرَّبين ولديهم مهارات خاصة في التحقق من دقة المعلومات، إلى جانب الاعتماد على بعض البرامج التي يستلزم استعمال بعضها وجود اشتراك بمبالغ مالية قد لا تتوافر لدى الأفراد العاديين.
اقرأ أيضاً: "التزييف العميق".. هكذا يمكنك اكتشاف فبركة الصوت والصورة
وغالباً ما يكون لدى المؤسسات الإعلامية الكبرى الفرق الخاصة بالتحقق من دقة المحتوى المنشور (صور/ فيديوعات/ صوت) إلى جانب الأخبار المكتوبة بالطبع. مثل هذه الفرق موجودة لدى دويتشه فيله DW، رويترز، وكالة الصحافة الفرنسية، بي بي سي، اسوشيتد برس، واشنطن بوست، نيويورك تايمز، بيلينغ كات للتحقيقات الاستقصائية وغيرها.
ويعتبر البحث العكسي reverse image أحد أهم وسائل التحقق من دقة المعلومات خصوصاً للفيديوهات والصور. وفي هذا الإطار يمكن استعمال محركات البحث Google images و Tineye و Bing و Yandex و whopostedwhat؟ وTineye و Pic2Map ، وذلك من خلال رفع الصور على هذه المواقع والبحث ليظهر أين ومتى نشرت تلك الصور وحتى الإداة المستخدمة في التصوير ونوعها، بحسب ما نشرت شبكة الصحفيين الدوليين.
وبالنسبة للفيديوهات، يوجد الكثير من الأدوات المجانية مثل أداة Youtube DataViewer والتي قامت بتطويرها منظمة العفو الدولية لاكتشاف جميع المواقع التي نُشر فيها الفيديو الذي يتم التحقق من مصداقيته.
أيضاً تعتبر أداة InVID من أشهر أدوات التحقق من الفيديوهات والتي يمكن إضافتها مجاناً للمتصفح كروم أو فايرفوكس، حيث يتم فقط وضع رابط الفيديو المنشور (أياً كان مصدره) ليتم تقسيمه أوتوماتيكياً من خلال الأداة إلى عدة مشاهد عبارة عن صور ثابتة يمكن بعدها باستخدام محركات البحث المختلفة الموجودة داخل الأداة التعرف على مدى مصداقية الصور الواردة في الفيديو.
ماذا يمكن أن يفعل المستخدم العادي؟
بالنسبة للمستخدم العادي، يمكنه أن يلاحظ بعض العلامات المثيرة للشك بخصوص الفيديو أو الصورة، مثل طبيعة الملابس (صيفية أو شتوية) ومدى اتساقها مع توقيت نشر الخبر، علامات مميزة في المكان أو الشارع الملتقط فيه الفيديو أو الصورة، حالة الطقس.
أيضاً قد يؤدي عرض الفيديو بشكل بطئ إلى ملاحظة تغيرات إو تلاعبات يمكن أن تكون قد حدثت للفيديو الأصلي باختفاء أشياء أو أشخاص أو تغير الخلفية. ومن خلال برامج تحديد الموقع الجغرافي مثل Google Earth و Wikimapia يمكن التحقق مما إذا كان موقع التصوير موجوداً بالفعل في المكان الذي يدعي الفيديو وجوده فيه.
كما يمكن للمستخدم التحقق من وقت تصوير الفيديو. إذا كانت هناك ظلال مرئية، فيمكنه تحديد وقت التقاط الفيديو من خلال التحقق من اتجاهات الظلال مقابل وقت معين من العام باستخدام أدوات مثل Suncalc.
تأثير الأخبار الكاذبة
"الأخبار عموما لها تأثير مهم على مواقف الشعوب أثناء الاضطرابات، وهذا ما يدفع الدول للسيطرة على الرأي العام عن طريق التحكم فيها"، هذا ما يراه حسام السكري، مؤسس منصات "صالون السكري" على يوتيوب والرئيس الأسبق لـ "بي بي سي العربية". يضيف السكري في رد مكتوب على سؤال لـ DW عربية أن المشكلة هنا تتمثل في "الغرض من استخدام الأخبار سواء كانت كاذبة كانت أم حقيقية".
ويضيف بالقول: "فلو أخذنا ما يجري الآن في أوكرانيا والإدانة الواسعة التي تواجه الجيش الروسي بعد تدخله في أوكرانيا نموذجاً، سنجد أن الدعم الواسع للشعب الأوكراني صاحبه نشر أخبار وصور تبين للأسف أن بعضها مفبرك"، وهو ما تداوله رواد التواصل الاجتماعي خلال متابعة مجريات الحرب.
ويؤكد السكري أنه من السهل اليوم فحص الصور والأخبار عن طريق الرجوع لمحركات البحث. وهو ما جعل كثيرين يكتشفون التزوير المتعلق بهذه الصورة. وبالتالي كانت النتيجة عكسية"، موضحاً بالقول: "ربما يوضح هذا أن تزوير الأخبار حتى لو نجحت تاريخياً في الانتصار لجانب على آخر، إلا أنها اليوم قد تؤدي للعكس تماماً، بل وربما تنتقص من الدعم الذي تتلقاه قضية قد يراها كثيرون عادلة".
ويؤكد السكري أن "الأمر نفسه حدث مع قضايا مسلمي الروهينغا وميانمار التي قام متعاطفون مع ضحاياها بنقل أخبار كاذبة أو صور من كوارث طبيعية أو أحداث عنف في مناطق أخرى باعتبارها جزءا من معاناة المسلمين في هذه المناطق. وبدلاً من إبراز القضية والانتصار لها، تسببت الأخبار المفبركة، في التشكيك في عدالة القضية بل وفي نقل الصور والأخبار الحقيقية.
أما ياسر عبد العزيز الخبير الإعلامي من القاهرة فقد أشار إلى مقولة شهيرة مفادها أن "من يربح الحرب هو من تربح قصته في الإعلام، وهي الفكرة التي يتبناها جوزيف ناي استاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد. كما أن هناك الكثير من المحللين يرونها نظرية صحيحة وهو ما يتضح من خلال التاريخ عبر المقارنة بين زعيمين فعل كلاهما الشيء نفسه لكن يُقّدم أحدهما على أنه بطل فيما يقدم الآخر على أنه مجرم"، بحسب ما قال خلال اتصال هاتفي مع DW عربية.
حروب غير تقليدية
ويضيف عبد العزيز أن الفكرة نفسها تنطبق على الحروب الأخيرة التي جرت في عدة أماكن حول العالم، "فبعض المحللين يشيرون إلى قصف الناتو لليبيا والغزو الأمريكي للعراق وتغيير الولايات المتحدة لأنظمة بالقوة في أمريكا اللاتينية وأن هذه الأطراف ربحت المعركة - وخصوصاً عند غزو العراق - لأن وسائل الإعلام قامت بعمل كبير في هذا الإطار وهذا ما يؤكد صحة المقولة السابقة"، مشيراً إلى أنه "على الجانب الآخر هناك من يؤكد أن الحروب يجب أن تُكسب على الأرض وأن التضليل لا يستمر وينكشف بمرور الوقت".
ويؤكد الخبير الإعلامي المصري أن "الحرب المعاصرة هي مفهوم معقد وأن الحروب لا يمكن أن تُربح الحروب في ميادين القتال فقط وأن جزء أساسي من أدوات خوض الحروب وصناعة النصر فيها يتعلق بالخطة الاتصالية والإعلامية خاصة وأن كل طرف يحاول نزع أدوات القوة الناعمة للطرف الآخر ما يجعل في النهاية ما يصل إلينا عن الحرب يختلف بشكل متفاوت عما يجري في الواقع على الأرض".
ويرى عبد العزيز : "كمواطن يقيم في الشرق الإوسط فإن ما أراه من مكاني هو أن الجانب الروسي صاحب قوة عسكرية كبيرة لكن في الوقت نفسه لديه قوة إعلامية متواضعة للغاية وباهتة لأنه اهتم بتطوير الصواريخ والمدرعات بأكثر مما اهتم بتطوير أدوات الجذب والاقناع، وأن الجانب الروسي لديه ذرائع لغزو أوكرانيا ربما لا تقنعنا في الشرق لكنها لا تختلف كثيراً عن ذرائع غربية سوغت عمليات عسكرية حدثت في دول أخرى".
أما هشام قاسم الناشر والكاتب والخبير الإعلامي من القاهرة فأكد أن "العالم يمر بلحظة فارقة في تاريخ البشرية وأن الكثير من التبعات ستترتب على هذه الحرب وبالتالي فإن تداول الأخبار الصحيحة في هذا الوقت يعد أمراً شديد الأهمية".
وأضاف قاسم خلال حوار هاتفي مع DW عربية أن "المواطن في المنطقة العربية يتلقى المعلومات التي يتاح له الحصول عليها من وسائل الإعلام الداخلية التي تسيطر عليها الدول والتي لديها مفاهيم وتصورات معينة عن العالم وترغب في توصيل صورة محددة للمواطن لما هو حادث يتماشى مع هذا التصور".
ويرى قاسم أن عدداً قليلاً من المواطنين في المنطقة العربية لديهم القدرة على البحث عن مصادر أخرى للمعلومات والإطلاع على إعلام خارجي له صوت مختلف مع إمكانية التحقق من دقة المعلومة، "وهو أمر ليس متوفر لدى كثير من المشاهدين العاديين، بل إن بعضهم بالفعل لا يعرفون مدى أهمية التمتمع بمثل هذه القدرة في ظل حالة السيطرة على ما هو متاح من الإعلام المحلي وهذا يتضح من الحديث مع رجل الشارع العادي الذي يتابع المعلومات المتاحة لديه من خلال وسائل الإعلام المحلية ولديه قدرة محدودة على تنويع مصادر المعلومات فتجد أن لديهم تصورات عجيبة للحرب والمواقف الدولية منها".
عماد حسن