فنزويلا والعرب.. هل ما يزال حلم "الثورة" سالباً للعقول؟
٢٦ يناير ٢٠١٩حمل الراحل هوغو تشافيز الأمل للملايين من سكان فنزويلا، ومعهم الكثير من الاشتراكيين الراغبين بمواجهة الرأسمالية، بثورته البوليفارية التي انطلقت عام 1999. وعلى مدار تاريخه الرئاسي، تحوّل الرئيس الراحل إلى بطل شعبي حسب مؤيديه ورئيس شعبوي حسب معارضيه، قبل أن يخطفه الموت عام 2013 تاركاً السلطة لنيكولاس مادورو. لكن وبعد 20 عاماً من قيام هذه الثورة، تظهر المؤشرات جد قاتمة في فنزويلا، حيث تتفوق عناوين الفقر والتضخم والانقسام السياسي والصراع على السلطة.
شهرة النظام الفنزويلي تجاوزت حدود أمريكا الجنوبية، ووصلت إلى العالم العربي، حيث كوّن صداقات وطيدة مع بعض الدول التي تحمل لواء الاشتراكية كالجزائر، وكان صديقاً للفلسطينيين وداعماً لهم في وجه إسرائيل، خصوصاً في عصر تشافيز الذي اعترف بفلسطين كـ"دولة مستقلة". لكن اختيار النظام الفنزويلي لتوجه سياسي قائم على الفكر الثوري المعادي للولايات المتحدة وحلفائها، وتبنيه سياسة يسارية راديكالية، خلقا له توترات سياسية مع دول عربية، ومنها المغرب، الذي تبادل أكثر من مرة القصف الإعلامي مع فنزويلا بسبب دعم هذه الأخيرة لجبهة البوليساريو في نزاع الصحراء.
ومع التهديد الحالي للثورة البوليفارية (نسبها تشافيز إلى الشخصية التاريخية سيمون بوليفار)، يترقب الكثير من العرب مآل الصراع الحاصل حالياً بين مادورو ورئيس البرلمان خوان غوايدو الذي اعترفت به واشنطن وبعض حلفائها رئيساً للبلاد. وفي الوقت الذي لم يصدر فيه موقف رسمي من الدول العربية، كان عادياً أن تسابق أحزاب يسارية الوقت لتؤكد تضامنها مع مادورو، غير أن استمرار التشظي الاقتصادي في البلد، والتقارير المتعددة التي ترمي مادورو بالفساد، فضلاً عن العلاقة القوية التي تجمع دولاً عربية بالولايات المتحدة، كلها عوامل تجعل أطرافاً أخرى تأمل في تقويض النموذج التشافيزي.
لماذا الصمت العربي؟
رغم بعد المسافات واختلاف الثقافات، حازت فنزويلا صفة مراقب في جامعة السوربون منذ عام 2006. وهي اليوم "الدولة الـ23 في العالم العربي" حسب تصريحات زيدان خوليف، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة باريس، لـDW عربية. لكن أصدقاء فنزويلا من العرب يصمتون اليوم على ما يجري، وهو ما يرجعه خوليف إلى "غياب الاستقلال السياسي لدى الدول العربية التي ترهن قراراتها الخارجية بمواقف ترامب".
ويُعرج خوليف على الصمت الرسمي الفلسطيني بالقول إن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس "لا يملك سلطة على قراراته وهو موجود لخدمة من يريدون إبقاء الوضع على حاله". لكن لماذا تصمت الجزائر، التي زارها مادورو أكثر من مرة ووصف علاقاتها معها بـ"المميزة"؟، يجيب خوليف أن الجزائر منغمسة في مشاكلها الداخلية وهي حالياً في التحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة، لكن صمتها "أمر مؤسف" حسب تعبيره.
غير أن إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض في مراكش، يرى تطور الأوضاع في فنزويلا بالشكل الحالي شأن داخلي، لا يمكن للعرب أو غيرهم أن يتدخلوا فيه بشكل قوي، أو أن يغيّروا عجلة التاريخ. ويتحدث لكريني لـDW عربية أن ما يبني مشروعية نظام ما ليس المواقف التي يعلن عنها في قضايا الخارج، بل في طريقة تدبيره لمعيش مواطنيه اليومي، كما أنه "لا يمكن المراهنة على مواقف النظام الفنزويلي من القضية الفلسطينية أو قضايا أخرى عادلة إذا لم تكن له شرعية على المستوى الداخلي".
هل هناك مؤامرة؟
بعيداً عن حسابات السياسة، تجتمع الدول العربية النفطية مع فنزويلا في منظمة أوبك، وهو رابط اقتصادي بالغ الأهمية نظراً لتوفر فنزويلا على أعلى احتياطي عالمي من النفط. وقد شكّل تراجع الإمدادات النفطية الفنزويلية داخل المنظمة، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب داخل البلد، أحد أسباب اضطراب الإنتاج في أوبك. لذلك سيحمل أيّ تغيير سياسي في فنزويلا، أثراً اقتصادياً على سوق النفط العالمي، ويشير خوليف إلى أن ترامب قد يدفع الدول المصدرة للنفط إلى إجراء تفاهمات بينها لأجل تشديد الضغط على كراكاس، والغاية حسب خوليف: "استحواذ ترامب، الذي ينظر للدول على أنها شركات، على بترول فنزويلا".
وما نشر أكثر فكرة المؤامرة ووجد صدى لها بين الكثير من المتتبعين العرب، أن واشنطن كانت من أوائل من اعترفوا بخوان غوايدو رئيساً للدولة، ولم يتوقف الأمر عندها، بل لحقتها مجموعة من الدول الغربية، فيما حضر موقف الممانعة مجددا، وتزعمته روسيا وتركيا وإيران. وزاد من تعميق فكرة المؤامرة انحياز الجيش لصالح مادورو، ومعروف أن الجيش في جلّ الدول الاشتراكية يمثلّ صمام أمان للعملية السياسية ويعكس موقفه التيار السائد في عمق الدولة.
بيدَ أن إدريس لكريني يرى أن ما يجري لم يأت من الخارج، بل قادته المعارضة الفنزويلية بناءً على تقييم الأوضاع الداخلية ووصول الوضع إلى ما يشبه الدولة الفاشلة. ويضيف: "هناك حراك شعبي يطالب بالتغيير وبإنقاذ البلد من الأزمات المتلاحقة ومن حالة الفساد الموجودة". ويستدرك لكريني: "صحيح أن الولايات المتحدة انزعجت من محاولة عودة الاشتراكية إلى الواجهة في أمريكا اللاتينية، لكن الدول القوية قادرة على تحصين ذاتها في مواجهة الضغوطات عبر تحصين المواطن، وهو ما قامت به دول أخرى بالقارة ذاتها ولم يقم به النظام في فنزويلا"
الحلم الفنزويلي.. في انحدار؟
لكن هل لا تزال فنزويلا تلهم الحالمين العرب بأنظمة اشتراكية تحقّق العدالة الاجتماعية؟ الأرقام القادمة من فنزويلا تحمل واقعاً أسودَ، فحسب ما نشره موقع ميدان الجزيرة، أضحى الاقتصاد الفنزويلي أسوأ من اقتصاد سوريا، ودخل قائمة تاريخية لأعلى حالات التضخم، لم تحدث عبر العالم سوى مرتين، فضلاً عن ارتفاع مهول في نسب الإجرام. والأسباب لذلك متعددة منها حسب المصدر السابق سوء إدارة الدولة لشركة النفط التابعة لها، والاعتماد الكلي على النفط في الاقتصاد، وتأميم الشركات الخاصة، ثم أزمة انهيار أسعار النفط عام 2014، وهروب اليد العاملة المؤهلة، وتغلغل رجال العصابات في الدولة، واللجوء إلى طبع النقود دون تخطيط. وهناك أسباب أخرى كزيادة الانقسام السياسي في البلد بعد وفاة تشافيز، والعقوبات الأمريكية.
لكن خوليف يرى أن الثورة البوليفية ملهمة وستستمر، بل يتوقع "مستقبلاً زاهراً للفكر البوليفاري"، متحدثاً عن أن الصعوبات الاقتصادية في فنزويلا لا تعني فشل النموذج الذي أرساه تشافيز، لأن هدف الثورة في البلد "ليس هو الحفاظ على الخبز، بل الحفاظ على الكرامة". ويتابع خوليف أن "الشعب الفنزويلي سيقف إلى جانب مادورو، وأن السيناريو الذي وقع لتشافيز عندما اختُطف (في إشارة إلى الانقلاب الفاشل عام 2002)، ووقف الفنزويليون معه، سيتكرّر مع خَلَفه، لأن النظام لا يتمثل في شخص، بل في فكرة العدالة الاجتماعية". ويتابع خوليف أن الفنزويليين لن "يرضخوا لترامب، وأن مادورو سيكون قادرًا على تجاوز الأزمة الحالية رغم صعوبتها".
غير أن إدريس لكريني، يرى أن ما يجري في فنزويلا يشكّل امتداداً لما جرى في مجموعة من النظم الاشتراكية التي تكسّرت شعاراتها تحت صخرة الواقع، ما أدى إلى انهيار هذه النظم تباعاً. ويتابع لكريني: " تشكّل تعاطف داخلي ودولي مع الثورة البوليفارية لما قامت، خاصة لوجود هيمنة أمريكية على العالم، لكن ما جرى لاحقاً أكد أن شعاراتها لم تطبق على أرض الواقع. ما يجري في فنزويلا مشابه لما وقع في ليبيا والعراق ودول اخرى، فقد اكتشف المتتبع أن الأمر يتعلّق بأنظمة سياسية هشة انشغلت لسنوات برفع شعارات تصدح بمواجهة الغرب والامبريالية".
الكاتب: إسماعيل عزام