فيلهلم ديلتاي ـ الأب الروحي للعلوم الإنسانية
١٢ أبريل ٢٠٠٧إذا كان عمانوئيل كانط الفيلسوف، قد وضع في كتابه "نقد العقل الخالص" الأساس المعرفي والنظري للعلوم الحقة، فإن فيلهلم ديلتاي هو الذي وضع في كتابه"نقد العقل التاريخي" حجر أساس ما يعرف اليوم بالعلوم الإنسانية. هذا المصطلح، دخل المجال المعرفي الألماني سنة 1849، كترجمة للمصطلح الإنجليزي "علم الأخلاق"، الذي استعمله جان ستيوارت ميل لأول مرة. ديلتاي عرف العلوم الإنسانية كنقيض للعلوم الحقة، كعلوم تملك منهجها وموضوعها الخاص بها، فإذا كانت العلوم الحقة تهتم بدراسة ما أسماه "بالقوى العمياء" أو الطبيعة، فإن دور علوم الإنسان تدرس ما يسميه "الإرادة" وهو يعني بذلك الإرادة البشرية.
ولد ديلتاي في ضواحي مدينة فيزبادن سنة 1833، ودرس علم اللاهوت في جامعتي هايدلبرغ وبرلين، وعمل لفترة طويلة كمدرس في المؤسسات الثانوية، قبل أن ينتقل إلى بازل ليبدأ مشوار التدريس الجامعي الذي سيقوده بعدها إلى جامعة كيل وبرلين. وفي وقت مبكر، في سنة 1850، بدأ ديلتاي بتطوير نظرته إلى علوم الإنسان والتي ضمنها كتابه "مقدمة إلى علوم الإنسان" الصادر سنة 1880.
ديلتاي ـ مؤسس علوم الإنسان
يرى ديلتاي أنه إذا كانت وظيفة العلوم الحقة تكمن في سبر أسرار الطبيعة فإن علوم الإنسان تقوم على مبدأ الفهم، الذي يرتبط أساسيا بالحياة وبالسياقات التاريخية والشخصية وبالفرد وإرادته الشخصية، إذ كما يقول عنه هشام شرابي: "موقفه الرئيس كان في إنكار إمكان فصل معنى الحقيقة التاريخية عن عمل التجربة الجوانية، وهو موقف أساسي يعتبر، في عصر بلغت فيه النزعة العلموية أوجها، موقفا ثوريا".
ديلتاي: "كل وعي هو وعي بالعالم وداخله"
مثلت قضية تأسيس علوم الإنسان السؤال المركزي لفكر ديلتاي، الذي يميز بين العلوم الإنسانية وبين العلوم الحقة انطلاقا مما يسميه تجربة الحياة، ولهذا يرى أن الخلط بين العلمين، أو بالأحرى إخضاع علوم الإنسان لعلوم الطبيعة سيأتي على حساب تجارب الحياة، التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار في دراسة الظاهرة البشرية، لأنها لا تتطلب دراسة الموضوع فقط، بل تشمل أيضا السياق التاريخي الذي يرتبط به. فالعلوم الإنسانية في نظره ليست ضربا من التجريد، بل هي علم بالواقع البشري والأفعال الفردية، فالأولوية المنهجية والأسبقية الإبستمولوجية في نظرة ديلتاي هي للواقع والفرد وليست للوعي أو النظر. فلا معرفة بدون معرفة بالتاريخ، وكل وعي هو وعي بالعالم وداخله.
وفي دراسته للتاريخ، وأسوة بكيركيغارد ونيتشه، أعطى ديلتاي الأولية للتجربة الذاتية أو الداخلية على الأساس التجريبي للمعرفة التاريخية، وعبر عن ذلك بقوله:"إن قدرة حياتنا واتساعها، وحيوية انعكاس تفكيرنا عليها، هما أساس الرؤيا التاريخية، إنها تمكننا من أن نعطي حياة أخرى لظلال الماضي الناضبة".
"الإنسان يذوب في سيرورة التاريخ"
يعتبر ديلتاي، إلى جانب الفرنسي هنري برغسون، مؤسس فلسفة الحياة، التي قضى أن يكون لهى صدى كبير في أعمال فلاسفة لاحقين كبار من قامة جورج ميش ومارتن هايدغر. فلسفة تضع الحياة كحياة معيشة أساسا لكل نشاط فكري ولكل معرفة حقيقية بالإنسان. إن الكلمة الأخيرة لهذه الفلسفة هي النسبية، فكل معرفة بالإنسان هي معرفة نسبية، والإنسان كما قال ديلتاي "يذوب في سيرورة التاريخ".