قمة الثماني بدون مترجمين؟ مستحيل!
٦ يونيو ٢٠٠٧حسب الحكاية التوراتية كان البشر جميعاً يتحدثون بلسان واحد، ولكن الرب بلبلَ ألسنتهم حينما بدءوا يشيدون برجاً ضخماً. منذ ذلك الحين والبشر يتكلمون لغات عديدة، وبذلك امتنع التفاهم فيما بينهم، فلم يكتمل بناء البرج الذي سمُي برج بابل.
وظيفة المترجم إذن من أقدم الوظائف في البشرية، وتزداد أهميته مع تشابك العلاقات الدولية وانتشار العولمة. لنتخيل، مثلاً، ماذا سيحدث في قمة الدول الثماني إذا غاب المترجمون. لن نبالغ إذا قلنا إن القمة ستفشل، بل إنها لن تنعقد أصلاً. بدون المترجمين لا تواصل بين المتربعين على قمة السلطة في العالم، وسيكون حديثهم في المؤتمرات شبيهاً بمحاولة البشر في العهد القديم بناء برج بابل.
مهنة الترجمة
والترجمة الفورية مهنة صعبة للغاية. هذا ما أثبتته دراسة قامت بها منظمة الصحة العالمية، حيث احتلت هذه المهنة المرتبة الثالثة على قائمة أشق المهن في العالم (بعد رواد الفضاء وقادة الطائرات فائقة السرعة). ورغم الأهمية الفائقة لوظيفة المترجم فإنه يظل دائماً في الظل، لا يكاد يراه أو يشعر به أحد. يجلس المترجم الذي يعمل في المؤتمرات الدولية أو في أروقة الأمم المتحدة في كابينة بعيداً عن منصة المتحدثين، لا يراه أحد ولا يشعر أحد بحضوره. الحاضرون يسمعون فقط صوته الذي لا يعبر عن رأي المتحدث بالطبع. المترجم الفوري حاضر غائب، وكلما تلاشى الإحساس به يكون قد نجح في مهمته. المترجم المثالي مجرد "أنبوب توصيل جيد"، على حد قول المترجم الأمريكي بيل هوبكنس الذي يعمل منذ سنوات طويلة مترجماً عن الروسية في وزارة الخارجية الأمريكية؛ أو كما قال مترجم آخر يعمل في الاتحاد الأوروبي: "لست إلا زيتاً يجعل المحرك يدور بهدوء."
الاستعدادات لقمة الثماني
منذ شهور والإعداد لقمة الثماني في هايلغندام يجري على قدم وساق. ترتيبات أمنية باهظة ومشددة. مشارورات سياسية للوصول إلى حد أدنى من الاتفاق في القضايا الخلافية، لا سيما قضية التغييرات المناخية. هذا بالطبع عدا الترتيبات التنظيمية لاستضافة مثل هذا العدد الكبير من قادة الدول ورؤسائها وساساتها. وماذا عن التواصل اللغوي؟ في حديث لصحيفة "زود دويتشه" صرحت أنالي لينهارت، رئيسة قسم الترجمة الفورية بالخارجية الألمانية، أن قسم الترجمة في وزارة الخارجية الألمانية بدأ الإعداد للقمة منذ مطلع هذا العام. والمبدأ الذي تعتمده وزارة الخارجية الألمانية في الترجمة الفورية هو الترجمة إلى اللغة الأم. وقد تم اختيار 18 مترجمة ومترجماً لست لغات هي: الألمانية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والروسية واليابانية. ولأسباب تتعلق بضيق المكان فإن المترجمين الثمانية عشر لا يجلسون معاً، بل يتوزعون على على عدة غرف. غير أن باستطاعتهم عبر شاشات تلفزيونية رؤية المتحدث وملاحظة إيماءاته وإشاراته التي قد تلعب دوراً في فهم ما يُقال وبالتالي ترجمته ترجمة صحيحة.
علاقة السياسي بالمترجم ـ تجربة كلاوس كينكل
حدث الساسة كثيراً عن علاقة الألفة والثقة التي تنشاً مع مرور الوقت بين المترجم والمتحدث. هذا ما يؤكده وزير الخارجية الألماني الأسبق كلاوس كينكل الذي يقول في صحيفة "زود دويتشه" إنه كان يضع ثقته التامة في المترجمين الذين يعلمون معه إلى درجة شعوره أن "باستطاعتهم أن يتولوا العمل نيابةً عني، خاصةً إذا كنت متعباً. كانوا يفكرون بعقل كينكل!"
ولكن ما التأثير النفسي لهذه المهنة على ممارسيها؟ كيف يتحدث المرء باسم غيره لمدة 12 ساعة يومياً؟ كيف يتحمل المترجم أن يكون طيلة حياته مجرد وعاء ناقل للأفكار؟ هل معنى ذلك أنه لا يتبنى رأياً؟ الأمر صعب على كثير من المترجمين الذين لا يعرفون في نهاية يوم ترجمة شاق "أين هم ومن هم"، على حد قول المترجمة المتمرسة كيت فانوفيتش. ولكن هل يحدث صراع في عقل المترجم بين ما يقوله وما يعتنقه؟ في معظم الأحيان يعرف المترجم المحترف كيف يفصل بين ما يترجمه ويقوله طيلة اليوم وبين أفكاره الشخصية. رغم ذلك تحدث أزمات نفسية. ذات مرة قبلت المترجمة كيت فانوفيتش تكليفاً بالترجمة دون أن تعرف الجهة المنظمة، ثم اكتشفت عندما ذهبت للعمل أنها تترجم في مؤتمر نظمته إحدى الجماعات الدينية المتطرفة: "كنت أريد العودة إلى المنزل فوراً لأغتسل من هذه القذارات." أما زميلتها كاترين غاي فقد كانت أكثر حظاً عندما عرفت أنها ستترجم في مؤتمر لمنظمة Scientology، فرفضت على الفور.
أخطاء قد تغير مسار التاريخ!
ورغم القدرات العالية التي يتمتع بها المترجمون الفوريون عادة، تحدث أخطاء في الترجمة، وقد تكون هذه الأخطاء قاتلة، بل قد تؤدي إلى نشوب أزمات دولية. قد تكفي كلمة تسقط سهواً، أو رقم يُترجم خطأ، أو الأخذ بأحد معاني كلمة وإسقاط معنى آخر يكون هو المقصود. في هذه الحالات يتحمل المترجمون مسؤولية جسيمة بالفعل. عن ذلك تحدث وزير الخارجية الألماني الأسبق هانز ديتريش غنشر أمام النقابة الدولية للمترجمين الفوريين بمناسبة احتفالها بمرور خمسين عاماً على تأسيسها، وروى الواقعة التالية: في أحد المؤتمرات الدولية في هلسنكي تحدث غنشر في الجلسة الختامية عن "تعديل الحدود سلمياً". فور نطقه بهذه الكلمات فوجئ غنشر بردود الفعل المتجهمة من جانب عدد من الوفود. فيما بعد عرف أن المترجم الشاب أسقط بكل بساطة كلمة "سلمياً" من خطاب غنشر!