لامبالاة الإنسان العربي تجاه منظمات المجتمع المدني: التركيز على أولية الحرية (1)
١٨ يونيو ٢٠٠٦حين أدعو إلى "إصلاح فكري ثقافي ديني أولاً" إنما أفعل ذلك رداً على دعاة الإصلاح السياسي الذين يتجاهلون – لسبب أو لآخر – أهمية العامل الديني في تشكيل الثقافة العربية والوعي العربي، أهمية تبدو واضحة الأثر والتأثير في الحاضر والماضي، أهمية لا ينفع التجاهل في نفي وجودها. فالإصلاحات يجب أن تسير – كما أرى – على نسق في وقت واحد معاً وليس على رتل. بعبارة أخرى لا يجوز – بل لا يمكن عملياً – إخضاع الإصلاحات لقائمة أولويات.
من هنا، يصبح واضحاً تماماً ما أعنيه بقولي إن الدين هو المُكوّنُ الأساسي في الثقافة العربية، وإن أي إصلاح ثقافي في العالم العربي لابد وأن يمر عبر بوابة إصلاح ديني، اعتدت أن أسميه في كتاباتي "إصلاحاً دينياً"، يتم من خلال قراءة الأحكام والنصوص الدينية قراءةً معاصرةً بعيداً عن التفاسير والاجتهادات التراثية.
لقد تحالف – منذ القرن السابع الميلادي – هامانات المؤسسة الدينية مع فراعين المؤسسة السياسية على تحويل ما جرى من أحداث وما ساد من ثقافة وفقه في القرنين السابع والثامن إلى دين يقر الاستبداد ويكرسه، ويربط طاعة الحاكم المستبد بطاعة الله والرسول، ويلزم الناس بطاعة "ولي الأمر" وفق تعاليم تلبس أحياناً لباس الحديث النبوي (ولا ندري هل هي أحاديث نبوية أم أموية؟!)، وأحياناً أخرى لباس الأحكام الفقهية.
شرعية الاستبداد
هذه الثقافة التراثية الفقهية بالذات – التي امتدت وتراكمت زهاء ثلاثة عشر قرناً، بدءاً من معاوية وانتهاء بالسلطان عبد الحميد العثماني مروراً بالأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين – هي التي نعيشها ونعيش عليها اليوم ونحن نتاجها المباشر.
وحين أطاح أتاتورك بنظام الخلافة منذ قرن تقريباً، لم يكن ذلك غيرة على الديموقراطية والعدل والمساواة التي ذبحها حكم الفرد المستبد باسم الخلافة، فقد ذهبت الخلافة كشكل، وبذهابها ذهب مفهوم شرعية الاستبداد، وبقي مضمونها الاستبدادي حياً في الفكر العربي والإسلامي وبالتالي في الأنظمة العربية كافة، فمصطلح المستبد العادل ما زال شائعاً في الثقافة العربية الإسلامية، ومازالت الأنظمة العربية إلى الآن تعيش نقصان الشرعية وهذا ما جعل كثير من الناس إلى الآن لا يقاومون الحكم الاستبدادي إذا تم تحت شعار ما يسمى العدالة أو الوطنية، الأمر الذي يفسر لنا عدداً من الظواهر لا يمكن تفسيرها بدونه:
عدم وجود فقه دستوري راسخ في التراث، وبالتالي انعدام الوعي الدستوري لدى الناس. والسبب هو أن الفقه الدستوري يحتاج إلى إبداع، والإبداع معدوم في ثقافتنا الموروثة القائمة أساساً على النقل والتلقين والتقليد. وبالعكس وجود تراث هائل حول الخضوع والطاعة لأولي الأمر. وقد راجعت التراث الفقهي القديم والحديث عَلَّني أجد فتوى تجيز الخروج على المستبد حتى ولو كان مسلماً من أجل الحرية للناس جميعاً، فلم أجد خلال هذه القرون الطويلة بل وجدت العكس تماماً وهو الخضوع وتقبل الأمر الواقع.
إن مفهوم ( كل شيء مكتوب سلفاً) والتخريجات حول هذا الموضوع التي نسمعها دائماً هي التي حولت الإنسان العربي المؤمن إلى آلـة فالعمر محدود والرزق مكتوب وان كل شيء مكتوب سلفا. كما ان الأساس عدم حب الحياة الدنيا. هذه المفاهيم شكلت شيئاً اسمه ثقافة القطيع. فالإنسان إما شاة، وإذا شذَّ أصبح ذئباً فيذهب ليقتل نفسه والآخرين معه.
هناك عدم وجود إحساس عميق وراسخ بقيمة الحرية في الوعي الجمعي الإنساني التراثي عامة والعربي والإسلامي خاصة، هذه القيمة التي تبلورت جوانبها وأخذت معانيها على مختلف المرتسمات في العصور الحديثة. أما تراثياً فقد اختلطت مع العدالة والمساواة. فالثورة الفرنسية – كما أراها – حركة إصلاح ضخمة تهدف في جوهرها إلى المساواة، ومثلها الثورة البلشفية في روسيا، حركة إصلاح تهدف إلى العدالة.
مفهوم الحرية
لقد ظلت الحرية زمناً طويلاً لا تعني في الفكر أكثر من نقيض للرق، فالحر هو الذي لايباع ويشترى في أسواق النخاسة. لكننا لانشك أبداً في أن عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، حين أطلق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً عبارته المشهورة " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، كان سابقاً لعصره في استشفاف معنى العدالة والمساواة ضمن مصطلح الحرية، فهو لم يقصد استنكار استعباد الناس بالرق، بدليل أن نظام الرق كان سائداً في عصره، ولم نسمع أنه فعل شيئاً كخليفة لإلغائه.