مجلة دوكومنتا: مشروع طموح يخفي أكثر مما يظهر
٢٤ يونيو ٢٠٠٧مشروع "مجلة دوكومينتا" هو أحد أركان معرض دوكومينتا 12 للفن المعاصر، والمقام حاليا في مدينة كاسل الألمانية حتى الثالث والعشرين من سبتمبر/ايلول. المشروع استهدف إصدار ثلاثة أعداد خرجت جميعها إلى النور تباعا، آخرها عشية افتتاح المعرض السبت الماضي(16 يونيو/حزيران). وخُصص كل عدد من أعداد مجلة دوكومينتا الثلاثة لتناول أحد الأسئلة الرئيسية التي تشغل المعرض هذه الدورة، فحمل العدد الأول عنوان "الحداثة؟" وتمحور حول سؤال ما إذا كانت الحداثة أصبحت ماضيا اليوم. وحمل العدد الثاني عنوان "الحياة!" ودار حول مفهوم الحياة العارية للفيلسوف الإيطالي المعاصر جيورجيو أجامبين، في حين جاء العدد الثالث والأخير تحت عنوان "التربية:" وتناول عملية التربية والتثقيف كمسؤولية جمعية. الأعداد الثلاثة خرجت مزدوجة اللغة، حيث نُشرت كل مساهمة باللغتين الألمانية والإنجليزية، وزاد عدد صفحات كل منها عن 200 صفحة من القطع الكبير.
شارك في كتابة مواد الأعداد الثلاثة كتاب وفنانون من مختلف أنحاء العالم. حيث قامت فكرة تحرير المجلة على دعوة أكثر من 90 مجلة ثقافية على مستوى العالم لمناقشة محاور المجلة الثلاثة والمشاركة في كتابة مواد حولها، ثم قامت هيئة التحرير بالتنسيق بين هذه الشبكة من المحررين والمؤلفين من خلال اجتماعات إقليمية وعبر إقليمية، إضافة إلى الاتصالات الالكترونية المشتركة. السيد فؤاد عصفور محرر مجلة دوكومينتا يقول إن الهدف من دعوة مجلات إقليمية مستقلة بدلا من دعوة فنانين وكتاب معروفين على الصعيد العالمي هو الحصول على إطلالة مختلفة على المشهد الثقافي والفني الاقليمي في كل منطقة، وتكوين قاعدة معرفية شاملة ومقروءة على نطاق واسع لما يناقشه الفنانون وصناع الثقافة في الوقت الراهن في كل منطقة على حدة، إذ عادة ما تكون هذه النقاشات والسجالات أكاديمية ومحصورة في نطاق ضيق ومتخصص.
لا تهدف مجلة دوكومينتا بأعدادها الثلاثة التي صدرت جميعها قبل بدء المعرض إلى أن تكون كاتالوجا له، وإنما تهدف، وفقا للسيد عصفور، إلى تكوين مقدمة نظرية للموضوعات الرئيسية التي يتناولها، تم عرضها بشكل لا يخاطب القارئ المتخصص فحسب، وإنما يثير اهتمام القارئ العادي أيضا. كما تهدف المجلة كذلك إلى تكوين خطاب عالمي يتيح الاطلاع على الانتاج الثقافي المحلي، مما يساعد منظمي المعرض على تشكيل ملامحه بشكل يعكس الوضع الراهن للفن والثقافة في العالم.
جبل الجليد
المثير للانتباه في مجلة دوكومينتا هو الصيرورة التي مر بها المشروع. فالأعداد الثلاثة المطبوعة لا تمثل في الحقيقة سوى قمة جبل الجليد الظاهرة من هذا المشروع الطموح، بينما يختفي معظمه تحت سطح الماء. فعلى مدى قرابة العامين قام العديد من المحررين والكتاب والمثقفين والفنانين من مختلف بقاع العالم بالتواصل وتبادل الأفكار والكتابات، في اطار عملية تبادل ثقافية واسعة النطاق. وعلى هامش هذا التبادل نشأت مشاريع صغيرة موازية، على سبيل المثال نشرت جريدة أخبار الأدب القاهرية بالتعاون مع مجلة دوكومينتا في شهر ابريل/نيسان الماضي ملفا كاملا عن مفهوم الحياة العارية للفيلسوف اجامبين، وأفردت مجلة نقد الجزائرية أيضا بالتعاون مع مجلة دوكومينتا أحد أعدادها لمناقشة قضية النساء والمواطنة. كما نجح عدد من المجلات الثقافية الناطقة بالأسبانية في تنظيم اجتماع تحريري لهم على هامش معرض اركو الفني في أسبانيا، هذه المرة بشكل مستقل عن مجلة دوكومينتا.
ملف الحياة العارية الذي قدمته جريدة أخبار الأدب يعد مثالا موفقا على امكانية التفاعل المثمر بين خطابات ثقافية مختلفة. ففي الملف المذكور قدم الكاتب والمؤرخ خالد فهمي تطبيقا عمليا، ومحليا إن شِئت، لأفكار الفيلسوف الايطالي الذي لا تتمتع كتاباته بحضور واسع في العالم العربي، على عكس حضورها الطاغي في السياقات الثقافية الاوروبية. خالد فهمي نحت ترجمة عربية موفقة لأحد المصطلحات الرئيسية عند اجامبين وهو مصطلح Homo Sacer حيث ترجمه إلى الخليع. والمصطلح اللاتيني يعود إلى العصور الرومانية السحيقة ويقصد به الشخص الذي يجري استبعاده من المدينة واسقاط حقوقه المدنية والسياسية، اما مصطلح الخليع الذي اختاره فهمي فيعود إلى العصور الجاهلية السابقة على ظهور الاسلام حيث كان يطلق على الشخص الذي تخلعه قبيلته وتسحب عنه حمايتها. ثم قدم فهمي عرضا مقنِعا لكيفية تحويل المواطنين في عصرنا الحديث إلى خلعاء لا دية لهم مستفيدا من افكار اجامبين. المحطات الرئيسية التي يتوقف عندها هي حادثة جلد أحد العبيد حتى الموت في مصر عام 1858 ونجاح رفاقه في القصاص له قانونيا، ثم حادثة تعذيب مواطن مصري مؤخرا في أحد أقسام الشرطة حتى الموت وإفلات الجناة من العقاب هذه المرة، وصولا إلى معسكر جوانتانامو باعتباره التجسيد الواقعي لحالة الخلع، حيث أُسقط عن المسجونين فيه صفتهم القانونية والسياسية والاجتماعية، وأصبحوا مجرد أجساد بيولوجية عارية تعيش بين الحياة والموت.
لقاءات صغيرة
الشاعر علاء خالد، محرر مجلة أمكنة السكندرية التي تُعنى بثقافة المكان، شارك في المؤتمر الذي عقدته دوكومينتا في مدينة ساو باولو البرازيلية في نوفمبر/تشرين ثان 2006، وهو أحد خمس مؤتمرات عبر إقليمية نظمها المشروع، وعُقدت في هونج كونج ونيو ديلهي والقاهرة ونيويورك. خالد يرى أن المؤتمر كان فرصة للتعرف إلى الحركات الثقافية في أمريكا اللاتينية، وأثار اهتمامه استخدام الفنانين والمثقفين وسائط غير مطروقة في مصر مثل الراديو. وخلال مشاركته للمؤتمر تعرف على مخرج إيراني واعجب بمشاركته فوجه له الدعوة للمساهمة في العديد الجديد من أمكنة. كما قرر خالد أن يضم نص للكاتب اللبناني بلال خبيز عن انتاج الصورة والحرب، هو مساهمته في مشروع دوكومينتا، إلى العدد القادم من المجلة.
مثل هذه اللقاءات الصغيرة غير المتوقعة هي المكسب الحقيقي لماكينة التواصل العملاقة التي دشتنها دوكومينتا. ومن المؤكد أن هناك أمثلة عديدة شبيهة بحالة علاء خالد، تقاطعات مثيرة وغير متوقعة حدثت بين أطراف متباعدة، ومن المؤكد أيضا أن هناك مشاريع صغيرة محلية حدثت أو ستحدث مثل ملف أجامبين في الجريدة القاهرية، غير أن هذا المستوى من التواصل الحقيقي بقي للأسف مغمورا تحت مستوى آخر من التواصل يتسم بالجمود. هذا المستوى الأخير يقوم على التمثيل وعلى الاعتقاد بأن التواصل يحدث عبر تجاور ممثلين ثقافيين من شتى أصقاع العالم وإلقاء كل منهم بمداخلته، وليس عبر إنتاج تقاطعات مشتركة. هذا الخطاب الذي يتكأ على التجاور كثُر إنتاجه في السنوات الأخيرة عبر مشاريع متعددة تدعو إلى الحوار والتبادل الثقافي، وللأسف لم تنجُ أعداد مجلة دوكومينتا المطبوعة منه.
تجاور شبه صامت
أعداد مجلة دوكومينتا الثلاثة تشبه قمة جبل الجليد أيضا فيما يتعلق بمحتواها، حيث اختارت أن تقف عند المستوى الجامد وتهمل المستوى الأكثر ديناميكية وتتركه مغمورا تحت الماء. فكم كان من الأجدى أن تفسح أعداد المجلة المطبوعة مساحتها لتوثيق لقاءات وتقاطعات المستوى المغمور الأكثر أهمية، وتجعلها في بؤرة الاهتمام العام، فهي في الحقيقة جوهر عملية التبادل والتأثير المشترك. غير أن المجلة أفردت صفحاتها لنصوص كُتبت كمداخلات خاصة بمحاور المجلة، وجاءت مشتتة ومتفرقة، دون أن تسعى لتكوين جملة واضحة. فالقارئ سيجد مزيجا من النصوص النظرية العميقة بجوار نصوص أخرى رشيقة تقترب إلى الشاعرية، إلى جانب مواد تلقي الضوء على محطات تاريخية معينة في مناطق بعينها، إضافة إلى التعريف ببعض الفنانين المعاصرين. والمواد في معظمها عالية الجودة ومثيرة للاهتمام، لكنها للأسف تفتقر إلى رابط يربطها ببعضها، ولا يحدث تقاطع بينها إلا نادرا فتبدو متجمدة تخلو من أي ديناميكية، وإن دار حديث بينها فإنه يبقى هامسا. لذلك نأمل أن يكون الإصدار الالكتروني الذي ينوي منظمو المشروع تحقيقه فيما بعد أكثر اهتماما بذلك الجانب، رغم الخسارة الناجمة عن عدم منحه الاهتمام الذي يستحقه.
كمثال على الحوار الهامس الذي كنا نأمل أن يتعمق نسوق نصين من العدد الأول "الحداثة؟" يتناولان الفضاء المديني وعلاقته بكارثة الحرب. في النص الأول يعود المشرف الفني للمعرض روجير بورغيل إلى الدورة الأولى من المعرض ويقدم قراءة لفكرة المعرض وفق سياق اللحظة التاريخية التي عقد فيها. ففي عام 1955 كانت مدينة كاسل التي دمر أكثر من 80 بالمائة منها تتلمس طريقها للخروج من الماضي النازي وشق بداية جديدة. وجاء معرض دوكومينتا الأول كمحاولة في هذا الاتجاه حيث قام منظمو المعرض باستخدام فضاء المدينة بعد كارثة الحرب وتقديم وسيلة تعبير تساعد المشاهد على تتبع ينابيع الفن الحديث وليس فقط مشاهدته. أما النص الثاني فيتناول الفضاء المديني لحظة الكارثة نفسها، جاء النص الذي ينتهي به العدد نفسه تحت عنوان "حتى نهاية العالم“ وهو للكاتب اللبناني توني شكر. النص ناب عن الكاتب في الحضور إلى مؤتمر دوكومينتا الذي انعقد في هونج كونج، حيث جاء توقيت المؤتمر في صيف 2006 ابان ما كانت بيروت واقعة تحت وطأة القصف الإسرائيلي. توني شقر يقول في نصه إنه لم يرغب في المشاركة في المؤتمر ليس بسبب عدم استطاعته، ولكن لعدم رغبته. فأثناء القصف الذي استمر 33 يوما تحول مواطنو المدينة إلى كائنات أثيرية تمرح في كل مكان متخففين من هويتهم الجامدة، وتحولت بيروت إلى مدينة سحرية تتغير خريطتها مع كل جسر مدمر، وتنتقل الأحلام بحرية بين منامات سكانها. شقر لم يكن مستعدا للخروج من هذه الحالة والعودة إلى الحالة الطبيعية ذات الهوية الجامدة، لم يكن مستعدا أو قادرا على البحث عن جواز سفره حيث اسمه وعنوانه وجنسيته والذهاب به إلى السفارة من أجل الحصول على تأشيرة تؤهله إلى السفر.