مراكز ألمانية تساعد اللاجئين لتجاوز الأزمات النفسية
٢٧ سبتمبر ٢٠١٣جان مامادو مبولوندي رجل ذو بنية جسدية قوية وكتفين عريضين وذراعين قويتين. لكن الشكل الخارجي الذي يوحي على أنه رجل قوي لا يعكس الحقيقة، لأن هذا اللاجئ البالغ من العمر 49 عاماً محطم نفسياً، ونظراته الخجولة توحي إلى ذلك، حيث يجد صعوبةً في الحديث مع أناس آخرين حول قصته بسبب خجله. يتحدث مامادو مبولوندي ثلاث لغات بطلاقة، لكن الحديث عن قصته ومعاناته استعصى عليه لمدة طويلة. فقد كان يعمل مفتش شرطة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كما عمل أيضاً مدرباً وطنيا لرياضة الملاكمة، وهو متزوج وله أربعة أبناء اضطر إلى تركهم لوحدهم وفر إلى خارج البلاد.
"عندما يحل الليل كان السجناء الآخرون يحولونني لامرأة".
في أحد الأيام أُلقي القبض على مامادو مبولوندي في الشارع ليجد نفسه بعد مدة وجيزة في السجن. أما أسباب الزج به في السجن فلا تزال مجهولة لديه، ولا يبقى أمامه سوى التأويلات. في السجن عاش تجارب قاسية يلخصها بتعبير إيحائي يقول فيه "عندما يحل الليل كان السجناء الآخرون يحولونني لامرأة"، ولم يستطع التلفظ بكلمة "اغتصاب". حيث لم يستطع الدفاع عن نفسه وهو الذي كان يعمل في الشرطة ويحث الناس على احترام القانون والالتزام بالنظام.
نجح ماما دو مبولوندي في وقت معين من الهرب من السجن وغادر الوطن قبل ثلاث سنوات. وكان الوصول إلى ألمانيا بالنسبة له مجرد صدفة خالصة. في ألمانيا بدأ يعي بعمق الوحدة التي كان فيها وبعبء التجارب التي مر منها والتي خلفت لديه أزمة نفسية. وينظر الآن إلى إمكانية خضوعه للعلاج في مركز العلاج النفسي في دوسلدورف (PSZ) كقدر سار. ويقول بأن المرء ينجح دائما في العثور على بيت خير تقدم فيها المساعدة، ويضيف بأنه تم استقباله بدون أحكام مسبقة رغم أنه لم يكن يتحدث اللغة الألمانية. وساعده احتضان المركز له على استرجاع الثقة والإفصاح عن التجارب التي عاشها، إذ أصبح بمقدوره اليوم الحديث مع النساء عن جراحه.
حول هذا المدح الصادر من مامادو مبولوندي تجاه المركز تتفاعل السيدة آنيته فيندغاسه مع بابتسامة خجولة. استمعتْ فيندغاسه إلى مامادو مبولوندي باهتمام كبير في هذا المركز الواقع في المدينة القديمة بدوسلدورف. تقول آنيته فيندغاسه:"الناس الذين يقصدوننا لا يكونون غرباء على المكان فقط بل يعيشون "فوضى" المشاعر النفسية". وتضيف هذه المربية الاجتماعية أن المرضى "يعيشون عملية استرجاع ذهني لذكريات الماضي ويتذكرون التجارب الصادمة، كما يعيشون مشاكل النوم وحالات فزع شديد، كما لديهم مشاكل في التركيز".
عنصر الآمن مهم لإنجاح العلاج
يحاول المعالجون النفسانيون في المركز إيصال المعنيين فكرة مفادها أن ردود أفعالهم هي طبيعية أمام أحداث غير طبيعية، ولا يجب عليهم الخوف من أن يصبحوا حمقى. كما يساعدون المرضى على تجاوز وقع الصدمات التي مروا بها. في هذا الصدد تقول آنيته فيندغاسه: "يجب أن يشعر المصابون بالصدمات النفسية بالأمان ولا يجب أن يكون لديهم اتصال بالجناة". وبالنسبة للاجئين المعنيين بالأمر فليس لديهم أي داع للخوف من إعادتهم إلى بلدانهم أو إلى أماكن أخرى غير آمنة. وحتى محيط الأماكن التي يسكنون فيها يجب أن تكون آمنةً، لأن كل اعتداء يتعرضون له يزيد من حدة الصدمات كما ترى آنيته فيندغاسه. #b#
معالجون نفسيون من أصول مهاجرة
خلال مرحلة العلاج النفسي يتم السعي إلى تحقيق توازن جسدي ونفسي للمعنيين كما يتم تسوية الأمور القانونية والاجتماعية لهم. ليتم بعدها تخصيص حيز زمني كبير للمرضى للحديث عن تجاربهم في محاولة لبناء الثقة. في هذا الصدد تقول آنيته فيندغاسه: "نحن نجعلهم يشعرون بأنهم مرحب بهم، نعطيهم الثقة، لأننا نعرف طرقا وتقنيات للعلاج نعرف بأنه سيجعل نفسيتهم المتأزمة تتغير إلى الأفضل". فالمعالجون النفسانيون الثمانية الذين يشرفون على نزلاء المركز هم أنفسهم من أصول مهاجرة ويتكلمون مجتمعين اثنا عشر لغةً. وفي حال وجود صعوبات في الفهم يساعد مترجمون على التغلب عليها. ويلقن المعالجون للمرضى منهجا وتمارين للتعامل مع أعراض أمراضهم النفسية على نحو جيد. ومن بين التمارين التي يتلقونها هو التركيز الواعي على المكان واللحظة الآنية والتحرر من سجن الماضي، ويتم أثناء ذلك ترديد عبارات تساعد على تقوية عقولهم الباطنية كترديد عبارة: "أنا هنا في مكان آمن".
هدف العلاج إعادة الثقة إلى الضحايا
تشبه آنيته فيندغاسه الصدمات النفسية بجرح في الجلد يندمل مع مرور الوقت لكن لون الجرح يبقى كأثر له، فرغم عدم اختفاء الآلام بشكل كلي إلا أن المعنيين يواصلون العيش والانخراط في المجتمع. ويبقى الهدف الرئيس للعلاج النفسي هو مساعدة المرضى على تحقيق تصالح نفسي مع الماضي وتجاوز العقد التي خلفتها الصدمات التي عاشوها. ويلجأ المعالجون في المركز إلى الوسائل والتقنيات التي تساعدهم على فهم خفايا ما بداخل نفوس ضحايا الأزمات النفسية.
ماما دو مبولوندي في الطريق إلى حياة طبيعية من جديد
يعتمد تمويل مراكز العلاج النفسي من الصدمات كمركز دوسلدورف على التبرعات والمساعدات التي تقدمها الحكومة والبلديات، وأيضا من دعم الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي. وبسبب الإقبال الكبير عليها تضطر تلك المراكز إلى وضع لائحة انتظار لمرضى من دول كالشيشان وأفغانستان والكونغو. وعن تجربته في المركز يقول ماما دو مبولوندي: "العلاج الذي خضعت له في هذا المركز أنقذ حياتي". لكنه لا يعرف إن كان سيلتقي بزوجته وبأطفاله من جديد أم لا، كل ما يعرفه هو أنه لا يرغب إطلاقا في العودة إلى الكونغو من جديد. وكمؤشر على تحسن حالته يقول: "إذا أتيحت لي الإمكانية لتدريب الأطفال على رياضة الملاكمة فسأفعل ذلك بكل سرور".